كتابة الشعر: مهارات وأسرار
(100 فكرة إبداعية للشعراء)
- براعة الاستهلال أن يكون شعرك لافتًا.
- الشاعر رحالةٌ بين أزمنة الشعر، يتوقف عند جمال الشعر القديم ليتأمله ويتعلمَ ويستلهمَ منه، ثم ينطلقُ منه إلى اتجاهات الشعر الأدبية في مختلِف العصور، حتى يصل إلى عصره، وإلى طريقته الخاصة والجديدة في الكتابة.
- الشاعر المبدع يكتب لكي يكتشف ويتخيَّل، وهو "صانع" ظلالٍ وانعكاسات، ورسامٌ للتفاصيل الدقيقة، ومقتنصٌ لمَّاح للَّحظاتِ الصغيرة والمشاهدِ الهاربة التي لا يراها غيره.
- بالتجربة المستمرة والمحاولات المتكررة يعرف الشاعر آخر الإبداع الحقيقيِّ عنده، فهو يطوِّر ذائقته الفنية باستمرار، ولا يكتفي بأساليبه ومهاراته الإبداعية التي توصَّل إليها، بل يبحث دومًا عن المختبئ منها.
- الإبداع روحٌ واحدة ليس لها حدود، وليست محصورةً في قالَبٍ واحد أو طريقةٍ محددة، وهي تتنقَّل بين العلوم والفنون والأفكار، وتظهر فيها بأشكالٍ مختلفة، وما نراه من إبداع في لوحةٍ أو مشهد، أو نلتقطه من حوار، أو نلاحظه في اختراع، أو نلمحه في مراوغةٍ ذكية، أو نتنبَّه إليه في تصرُّف، أو نندهش منه في كتاب؛ يمكن أن نستفيد منه في الكتابة الشعرية، والشاعر يلتقط إشاراتِ الإبداع من كل شيءٍ حوله، لكي يضيفها إلى تجربته.
- بالإبداع: ينجح الأديب، وتتكوَّن ذائقة المتلقي، ويتجدَّد المشهد الأدبي، وتتأسَّس المدارس الأدبية بوصفها رؤًى أدبية متطورة، لا أنماطًا مكررة، فهو ركيزةٌ أساسية في بناء التجربة الأدبية، وليس ترفًا جماليًّا، ومن هنا يمكن فهمُ بعض مظاهر الضعف في الشعر على أنها نِتاجٌ لقلة الحضور الإبداعي كقيمةٍ جوهرية أثناء عملية الكتابة، أو لعدم وضوح التصوُّر حول المدرسة الأدبية كإطارٍ فكري وجمالي موجِّه ومجدِّد لأساسيات التجربة الشعرية، فالشعر يتراجع تأثيرُه عندما يُكتب خارج أفق الإبداع، أو من دون إدراكٍ للمرجعيات العامة التي ينتمي إليها.
- تبدأ القصيدة من بَذرةٍ يلقيها الشاعر في حديقته، ويرعاها بالعناية حتى تنموَ وتتفتَّح وتنضَجَ كثمرة، ليقطفها القراءُ بعد ذلك، ويتذوقها كلٌّ منهم بطريقته، فالناس أذواق، والذوق نِسبي.
- إمتاع القارئ حتى ترقص روحه دهشةً وفرحًا، جزءٌ أساسي من كتابة الشعر، واستمتاعُ الشاعر أثناء الكتابة لا يقلُّ أهميةً عن ذلك، فهو يجد في الإبداع متعةً خاصة، لأنه أول من يُشعل شرارتَه قبل أن يصل إلى الآخرين.
- القراءة العميقة لشاعرٍ لم نمتلك أدواتِه بعد، ولم نتجاوزها، تفتح لنا آفاقًا جديدة في عالم الشعر، والبحثُ الدائم عن الجديد في أعماق الدواوين، والتعرفُ على المزيد من الشعراء المتميزين، يُبقيان الشاعر في حالة اكتشافٍ مستمر.
- أساس الشعر وقاعدته: صورةٌ مخترَعة منتظِمة، وخيالٌ مبتكَر بديع.
- الإبداع هو الاختراع، وهو والتجديدُ وجهانِ لعُملةٍ واحدة، ويأتي في الأدب نتيجةً لتفاعل الموهبة والرغبة والخبرة والتأمل والتفكير والتجريب المدروس.
- إبداع الأديب المطلَق يكمُن في أن يُبقي عملَه جديدًا في كل قراءة.
- تضيء شعلة الموهبة في بعض القصائد، ولكنها تبقى خافتةً لأنها لم تزوَّد بالوَقود الكافي، فالموهبة - وإن كانت حاضرةً وواضحةً فيها - لم تجد ما يغذِّيها من قراءةٍ واطلاعٍ وتمرين، فبقي نورها محجوبًا بضَعف الأدوات، وهذه الشعلة تحتاج إلى مزيدِ عناية، فلا يكفي أن يشعُر الشاعر ثم يعبِّر بفطرته، بل من المهم أن يعرف كيف يعبِّر عمَّا يشعرُ به، لأن الكتابةَ الشعرية تتطلَّبُ مهاراتٍ متعددةً مكتسَبة، وتدريبًا مستمرًّا، ومراجعةً دؤوبة، وتصحيحًا وتغييرًا متواصلًا، ووجودُ الموهبة لدى الشاعر بلا أدوات كمن يملك البذرةَ ولا يعرف كيف يزرعها، والشعر ينمو حين تجتمع الموهبة فيه بالحس الفني والمهارة؛ سواءٌ أكان الشاعر مطبوعًا أو مصنوعًا، وتتحول الموهبة إلى إبداع حين تُصقل بالعلم، ويوجِّهها الوعي، وتُدعَم بذائقة مدرَّبة.
- تأنَّ، ولا تسبق نفسك أثناء الكتابة، فالقصيدة ليست برقيةً عاجلة، وكلما اختمرَت أفكارُها في ذهنك، وأعطيتَها المزيد من وقتك وتفكيرك؛ ازدادت جمالًا.
- الشاعر المتمكن يُمسك بزمام قصيدته جيدًا، فلا يدع موهبته وحدها تتحكَّم في النص، ولا يترك النص يتفلَّت منه، وهو يسيطر على القصيدة وأفكارها، ولا يتركها تجمَح وتفرض سيطرتها عليه، وكذلك لا يجعل الدقة والتركيزَ على الإتقان يُفقدان القصيدة طعمها وروحها، فالسَّعيُ الزائد إلى الكمال والمثالية يجعل النص وكأنه مكتوبٌ بقلم "إنسانٍ آلي"!
- من أسئلة الشاعر الملحَّة أثناء الكتابة: كيف أبني قصيدةً مناسبة لهذا الموضوع من الداخل والخارج؟ ما الذي أبدعَ فيه الآخرون وهو غير موجود عندي؟ كيف أُبدع كما أبدعوا؟ لماذا لم أستطع حلَّ هذه المشكلة في شعري؟ كيف أضمن أن تبقى قصيدتي جميلة؟ ما الذي يَنقصها؟ كيف أستطيع تطويرها أكثر؟ هل المفردات المنتقاة مناسبة لموضوع النص وأفكاره ومعانيه وأجوائه العامة؟ أليس لو قلتُ كذا لكان أفضل؟ هل هناك كلمة بديلة تحمل دَلالاتٍ أعمق يمكن أن أوسع بها المعنى؟ هل هذه الصورة تعبِّر عن المعنى بالشكل المطلوب، وتتناسب مع الفكرة؟ هل هذه العبارة أو الكلمة ضرورية لزيادة التأثير؟ وهل هي جديدة أم مكررة؟ هل هذا البيت أو السطر يضيف قيمةً إلى قصيدتي؟ هل تمكنتُ من التعبير عن الفكرة بأسلوبٍ صحيح واحترافي، وبأفضل طريقةٍ ممكنة؟ ما أساليب الإقناع التي استخدمتها لعرض أفكاري؟ هل هذه الفكرة أو الصورة بسيطة أم مركَّبة؟ وهل طرحتُها بأسلوبٍ جديد؟ هل وزن القصيدة أو هندسة إيقاع التفعيلة يتناسبان مع الموضوع؟ هل تنسابُ الكلمات فيها بسلاسة، أم أنها متراكمة بطريقة عشوائية؟ هل هناك توازن بين العاطفة والعقل في النص؟ هل سيشعر القارئ بما أردت أن أعبِّر عنه؟ هل هناك تفاصيل إضافية يمكن أن تزيد من قوة تأثير القصيدة من دون أن تشوِّش المعنى؟ هل ابتعدت عن المبالغة الشديدة وتكلُّف الألفاظ والزخرفة المجانية التي لا تُثري النص؟ هل ما تزال أخيِلة قصائدي مبنيةً من عناصر الطبيعة وحدها، أم أني أَشرعتُ نوافذ خيالي إلى مختلِف عناصر الكون والحياة؟ هل مزجتُ في قصائدي بين عناصر الخبر والإنشاء، وأفعال ومَشاهد القول والحوار، والنداء والسؤال، والأمر والنهي، والماضي والمضارع والمستقبل والحُلم، والأنا وهو ونحن وهم، والتمني والتعجب، والإشارة والخطاب، والمفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، والمفارقات والثنائيات الضدِّيَّة.. وغير ذلك؟ كيف أجعل القارئَ يتلقى قصيدتي بحب، ويقرؤها بتأملٍ وشغف، ويودعها بانطباعٍ جميل أو بتأثُّرٍ عميق؟
- "ماذا؟ لماذا؟ كيف؟": ثلاثة مفاتيح للدخول إلى عوالم النص، على غِرار: "ماذا" يريد الشاعر أن يقول من وراء هذه الكلمات؟ "لماذا" اختارَ هذه الكلمة ولم يختر تلك؟ "كيف" فكَّر بطريقة إبداعية حتى صنع هذه الصورة الشعرية؟ وغيرِ ذلك من الأسئلة التي تفتح أمام القارئ آفاقًا رَحبة لفهم النصوص الشعرية واكتشاف الأبعاد الخفية وراء كل عبارةٍ ومعنًى وصورة.
- في قراءة الشعر لا بد من تغيير وتطوير الأفكار القرائية، لكي تتماشى مع أفكار الشعراء الفنية، وتستوعبَ ما جددوا فيه، وتعليقُ الحكم المُسبَق يسمح بالنظر إلى المجموعة الشعرية بعيونٍ جديدة، وبالتعرفِ عليها بذهنٍ متفتح، وفهمِها من زوايا متعددة، ويتيح المجالَ للشاعر لكي يعبِّر عن نفسه للقارئ، ويقدِّمَ له جديده، واستنتاجُ خبراتِ الشاعر وأدواتِه التي استخدمها في كتابة قصائده، يقرِّبان القارئ إليها، ويجعلانه يقرؤها كما أرادها الشاعر، ولكل عصرٍ أدواتُه ومصطلحاتُه التي تَكشِف أسرار شعره، والقارئ المبدع وغير المستهلِك، يدرك سياقاتِ الشعر المعاصر، ويقرؤه قراءةً شعرية وشاعرية: تبحث في أعماق النص وعناصره الداخلية وخفيِّ خطابه، كما تبحث في النص من الخارج بالمفهوم الشكلي والجمالي والعاطفي، وبالمشاعر والأحاسيس والمؤثرات.
- من المهم أن يتساءل الشاعر: هل يكفي أن أقرأ الشعر فقط بعد أن أحطتُ بالكثير من أسرار كتابته؟ القراءة في النقد، وفي العلوم المتعلقة بالأدب عمومًا، ومتابعةُ تطور الأدب عربيًّا وعالميًّا، ومعرفة الآليَّات التي يُقرأ بها الشعر المعاصر؛ تغذِّي التجربة الشعرية، وتفتح للشاعر آفاق الإبداع.. الشعر لا ينمو ويتطور بقراءة القصائد وحدها.
- يحتاج تحليل الصور والأوصاف الشعرية ذاتِ المستويات العالية إلى صبرٍ وتأمل، فبعض الشعراء لا يعطيك ما عنده بسهولة، بل يجعله كتحفةٍ فنية مخصصة للمتذوقين ذوي الخبرة والحسِّ الرفيع، وما لا يجد القارئ له تفسيرًا عند قراءة الشعر، لا يعني أن معناهُ مفقود، فهو أحيانًا يحتاج إلى البحث، وإلى طرح الأسئلة الصحيحة، لكي يصل إلى المعنى بين طبقات النص المتعددة، ويكتشف ما أخفاهُ الشاعر ولم يقله بصراحة.
- الشاعر الذي لديه رغبةٌ جادَّة في التطوير يتجنب الانغلاق على الأدباء والمدارس والعصور الأدبية، ويُبقي ذهنه متحركًا ومتطورًا، ومتقبلًا للاختلاف، ومنفتحًا على الأفكار، ومواكبًا للتغيرات في عالم الأدب، ومستفيدًا من الاتجاهات الأدبية وتفريعاتها المتجددة؛ التي تعتبر بحدِّ ذاتها نوعًا من الإبداع الذي يتضمَّن الاختلاف.. والأدب مثلُ الحياة، فيه فسحةٌ للجميع، والشعر جهدٌ تراكُمي، يبني فيه اللاحق على ما أسسه السابق، ويستفيد فيه المتعاصرون من جهود بعضهم.. وبذلك يبقى متجددًا ومتطورًا.
- من جماليات كتابة الشعر في مختلِف العصور: أن يترك الشاعرُ النصَّ على سجيَّتِه المتنوعة، التي يمتزج فيها الوضوحُ بالغموض الفني المنظم وبُعدِ المعنى والبلاغاتِ العالية، فذلك سرُّ جماله، والتقريرُ في الخطاب، والوضوح التامُّ في التصوير، والمباشرة في الطرح؛ لا تنتج شعرًا باقيًا ومؤثرًا في المشهد الشعري، وبلاغة الوضوح تؤلِّف بين الأذواق على المعنى الظاهر سهلِ الفَهم، أما بلاغات الغموض ودرجاتُه المتنوعة، التي لا تصل إلى الإبهام والتعقيد الشديد في المعاني والإغلاق في الأخيلة والتراكيب؛ فإنها تفتح مجالَ التباين بين هذه الأذواق، وتتيح للنص أن يكون متعدد الطبقات والقراءات، وتسمح للشاعر والقارئ بتذوق تفاصيل النص الفنية المدهشة، وكم من قصائدَ وأبياتٍ قليلة الوضوح أسرَتنا بجمالها، وبقي صدى كلماتها الجميلة حيًّا في نفوسنا! هذا ما أفضِّلُه على المستوى الشخصي، فالأسلوب الواضح دهشتُه خارجية، وهو ليس من شروط وأُسس كتابة الشعر، وكثيرًا ما يقترن بالأساليب التقليدية في الكتابة، وبالصور المتشابهة بين الشعراء، وبالبساطة والسهولة، وربما ابتعد عن الشعر، وأصبح كأنه نثرٌ موزون، ولا أقول إنه يجب على الشعراء أن يتخلَّوا عن المباشَرية والوضوح الفني، فالشاعر حرٌّ في أسلوبه، وله أن يختار الاتجاه الذي يراه في الكتابة، وله أيضًا أن يجرب ويتنقل من طريقة إلى أخرى، وأن يطور لنفسه أسلوبًا مباشَريًّا أو بسيطًا جديدًا، ويدعمَه بالتقنيات الفنية، وبهوية مستقلة ومعجمٍ معاصر مميز وأفكارٍ متجددة، ويجعله مختلفًا عن البساطة المتعارَفة في الشعر، ويجمعَ فيه بين السهولة الخارجية والعمق الداخلي.
- الصورة المعتادة معلومة أو فكرةٌ مكررة، لا شعر جديدًا فيها.
- دقة الشاعر في نقد شعره، وقبولُه للنصائح والآراء المنصفة والبنَّاءة التي يقدمها الجمهور الذي يراقب النص من الخارج، يعززان من نضوج تجربته، فالتفاعل مع النقد يشكل جزءًا أساسيًّا في تطوير عمل الشاعر، ويحفِّزه على تحسين أدواته الإبداعية باستمرار، وما أجمل أن يتبادل الشاعرُ الآراء مع أصدقائه حول قصيدته، ويسمعَ ملاحظاتهم ومقترحاتهم، فالفكر يَقدح الفكر، والنقاشات تُضيء القصيدة من جوانبَ لم يلاحظها الشاعر.
- هناك شاعرٌ مبدع يسعى إلى التجديد، وهناك كاتب قصائد، ومن الضروري أن يفرِّق الشاعر بين الشعر نفسه وبين إطار القصيدة ونظامها وأحاسيسها؛ لكي يتجه إلى المزيد من الاهتمام بشعرية النص من الداخل، وبالقصيدة الصافية، والشعراء متفاوتو المواهب في ذلك، فمنهم من يَبرع في الشعر، ومنهم من يركز على ما يتعلق بالإطار، ومنهم من يشتغل عليهما معًا.
- من الجوانب التي تقلُّ العناية بها لدى بعض الشعراء المعاصرين: إضافةُ تقنياتٍ جديدة إلى قصائدهم، ونقلُها من السرد وغيره إلى الشعر، ودراسةُ التقنيات الفنية المتطورة التي أضافها كبار الشعراء إلى الشعر، مع التعرف على مصطلحاتها الدقيقة، والطرقِ السليمة لاستخدامها، وفوائدِها ووظائفها وأسبابها، وتأثيرِها في بناء القصيدة، والأنواعِ الفرعية لكل تقنية، وذلك من خلال الكتب والمعاجم الأدبية والنقدية المتخصصة.
- القراءة في كتابٍ جديد أو معجمٍ نقدي، وأخذُ ما يُعجبه منه قبل كتابة القصيدة؛ تُتيح للشاعر فرصة تطبيق تقنياتٍ إبداعية جديدة، وتُعزِّز من تنوُّع وجَودة عمله الشعري، فالنقد يضيء مساراتِ التعبير، ويَلفت الانتباه إلى أدواته الجديدة.
- استخدام التقنية الإبداعية أكثر من مرة، وبأشكالٍ متعددة في القصيدة أو المجموعة الواحدة، يمكن أن يُعد تطبيقًا عمليًّا لها إذا تم بذكاءٍ وتنوعٍ فني، خصوصًا حين تكون من ابتكار الشاعر أو تطويره، وليس بالضرورة أن تنجح التقنيةُ الشعرية من أول محاولة، فقد تتعثَّر في بداياتها، أو تكون في حاجةٍ إلى تجريبٍ متكرر، حتى تظهر بصورتها الأجمل، وتؤتيَ ثمرتها الفنية المرجوة.
- إذا توقف الشاعر عن تجديد تقنياتِ وأدوات شعره، وتنويعِ طرق التصوير وتناول الأفكار فيه، فإن التَّكرار يحلُّ في قصائده محلَّ الإبداع، و"العُمر الإبداعي" للشاعر يبدأ من وصوله إلى نمطه الخاص، وبصمته الفنية، وهُويته الإبداعية المتفردة، بعد مدةٍ من التجريب، وينتهي بتوقفه عن تطوير شعره فنيًّا، والبَدءِ بتكرار أساليبه وأفكاره التي أنجزها سابقًا.
- تتبُّع "الألغام الشعرية" المدفونة في أعماق النصوص يكشِف عن خفايا الشعراء الفنية ومبادراتِهم الإبداعية، ويفتح بابًا لاستكشاف أسرارٍ مهمة في أعمالهم، وهذه الألغام هي اللَّمَحاتُ الأسلوبية الخفية في منهجهم الشعري، والابتكاراتُ والنقلات الفنية النوعيَّة والدقيقة التي يمكن أن تُلهم من يأتي بعدهم ليَبنوا عليها الكثير.
- في بدايات الشاعر لا يكون تأثره بشاعره المفضَّل عميقًا، لأن أدواتِه القرائية بسيطة، ومن الأفضل في هذه المرحلة أن يبتعد عن قراءته مؤقتًا، لكي يتمكن من التخلُّص من تأثيره عليه، ثم يمكنه أن يعودَ إليه بعد زمن، ليكتشف ما لم يلاحظه سابقًا بعد أن تطورت أدواته وثقافته الشعرية، وعند تكوين هُوية الشاعر المتكاملة المستقلة، يقلُّ حضور شعرائه المفضلين في قصائده، ويبدأُ صوتُه الخاص في الظهور بوضوح.
- الشاعر ليس ملزَمًا بأن يتقن كتابة جميع أنواع القصائد، أو أن يُجيد كل أشكالها التقليدية والمعاصرة، ففي هذا الزمن أصبح من الطبيعي أن يفضِّل بعض الشعراء كتابة قصيدة التفعيلة على قصيدة البيت، وأن يختار آخرون كتابة قصيدة النثر وحدها، وينسحبُ ذلك على البحور الشعرية، وطولِ القصيدة، وأغراضِ الشعر ومواضيعه الكبرى، وأشكالِه وأجناسه.. المهم أولًا وأخيرًا أن يكون الشاعر مبدعًا في اختياراته، وأن يُظهر بصمته الخاصة وفهمَه العميق لما يكتب.
- في كتابة الشعر، لا يكون اشتهارُ النص وتحقيق تطلُّعات الجماهير محرِّكَين أساسيين للشاعر، فالأهمُّ من ذلك هو التركيز على الفن والتأثير وصدق التعبير، وانشغالُ الشاعر بالشهرة والألقاب يُبعده عن هدفه الإبداعي الحقيقي، والأثرُ الفني الذي تتركه القصيدة هو المقياس الحقيقي لنجاحها.
- هناك فرق بين كتابة الشعر استجابةً للمشاعر وحدها، وبين كتابته حبًّا بالشعر نفسه، فالأول يعبِّر عن ردة فعل وانفعالٍ لحظي، والثاني ينطلق من وعيٍ أعمق بجماليات القصيدة وفنِّ بنائها.
- الإبداع هو سبيل النهوض بالشعر، والتركيزُ على كيفية عمله، وفهمُ أساليبه وديناميَّاته، والسعي الواعي لتفعيله في الكتابة، هو ما يفتح أمام الشاعر آفاقَ التعبير المتجدد، ويُثري تجرِبته الفنية، والقراءةُ في علم نفس الإبداع، وفي علوم التخطيط وثقافة الابتكار وطرق تنظيم الأفكار والعلوم التنموية الحديثة، وكذلك في الدراسات الخاصة بالإبداع الشعري والأدبي، وفي دواوين الشعراء المهتمين بالإبداع والتجديد؛ ضرورةٌ لا غنى عنها لكل شاعرٍ يسعى للارتقاء بتجربته الشعرية، وحفظُ وترديدُ المقولات الإبداعية يساعد على التلبُّس بالإبداع؛ ليصبح هاجسَ الشاعر والمحركَ له، بدلًا من هاجس الكتابة وحدها، والأمرُ نفسه ينطبق على التصوير، فهناك شعراء درَسوا فنَّ التصوير الشعري، وعرفوا وظائف الصور وأنواعها وأساليبَ تحليلها والطرقَ القديمة والجديدة لبنائها وتركيبها، ثم تفننوا فيها، وأضافوا إليها، لأنها أصبحت جزءًا أساسيًّا من البُنَى الإبداعية لنصوصهم.
- تناوُل المواضيع الجديدة أمرٌ يُظهر فرادة الشاعر وثراءَ تجرِبته، وهو من أوجُه الإبداع الشعري، والمواضيع المطروقة سابقًا لا تَفقد قيمتها الإبداعية إذا تناولها الشاعر بطرقٍ جديدة، فكلُّ شاعر يرى موضوعه من زاويته الخاصة، ويحمل تجربةً مختلفة تجعل الموضوع نفسَه يبدو جديدًا عند كتابته، وتجديدُ الأفكار الشعرية لا يعني دائمًا اختراعَ موضوعٍ جديد، إذ يمكِن الإبداع في تقديم الموضوع المطروق من خلال ملاحظة تفصيلةٍ مهمَلة تتعلق به، أو ربطِه بسياقٍ غير متوقَّع، أو نقلِه إلى زمانٍ أو مكانٍ آخر.. المهم ليس: هل كُتب عن هذا الموضوع سابقًا؟ بل: كيف أُحسِن عرضه في إطارٍ مبتكَر؟ وكيف أعبِّر عنه بأسلوبي الشخصي، وبتجرِبتي الخاصة من جديد؟ وكيف أصنع صورًا ومعانيَ مميزةً عن هذا الموضوع مهما كان بسيطًا أو مكررًا؟
- إعطاء الموضوع المهم والكبير الكثيرَ من الوقت يساعد على كتابة قصيدةٍ تعادل أهميته، والتدرُّب على توزيع الحالة الشعرية والشعورية على ساعاتٍ طويلة وأيامٍ عديدة يساعد على الإبداع في كتابة القصيدة وإخراجها بأجملِ صورة، ويمكن تخصيص الأوقات المحدودة لكتابة المقطوعات المكثَّفة والنصوص القصيرة.
- التحرر من هيمنة واستمرار الكتابة عن أحداثٍ معيَّنة؛ يسمح للشاعر بأن يتحرك بحريَّة، بعيدًا عن التأثيرات التي تحدُّ من إبداعه، وحين يشعر بأن موضوعًا أو أمرًا ما قد استولى على مشاعره، وأصبح يَعوق حركته؛ فلعلَّ الأنسب حينئذٍ أن يُريح قلمه قليلًا من عناء الكتابة، ويمنح نفسه فرصةً لتجديد أفكاره، ويبحث عن آفاقٍ جديدة للشعر.. أمَّا رصيد الشاعر في الحياة من الأحداث والتجارِب، فهو جزءٌ لا يتجزأ من وعيه وتجربته الإنسانية، والشعر يمثِّل حياة الشاعر.
- الشاعر البصير لا يدع نوعًا واحدًا من المشاعر يسيطر على صوره ونصوصه، فلا تكون كلُّها قاتمةً أو حزينة أو كئيبة أو مبتهجة أو متمردة، حتى لا يوصَف بها شعرُه، ولا يملَّ قراؤه، وهذا التوازن يحافظ على حيوية الشعر، ويضمن انجذابَ القراء وتفاعلَهم معه.
- الشعر يسبق الحُلم بخطوة، ويحمل في طيَّاتِه "رؤيا" إبداعيةً عميقة، واستشرافًا لما لم يأتِ بعد.
- الشاعر النمطي يكتبُ ما يعرف، والشاعر المبدع يعرفُ ما يكتب، وهناك من يُملي كلامَه على الورق، وهناك من يُملي عليه قلبُه فيكتُب.. وفي القلب يتشكل الشعر الحقيقي.
- قصيدة التفعيلة الحرة ما تزال في بداياتها، وقد بات تطويرُها وتجديدها أمرًا ملحًّا، ويمكن تجربتها بأنواعها ومدارسها وأشكالها المتعددة، مع إضافة لمساتٍ خاصة إليها؛ لأن طرق التصوير والأدوات والتقنيات والأبنية الشعرية والسردية تتغير وتتجدد باستمرار، وقصيدة التفعيلة هي الأقدر على مواكبتها واستيعابها.
- قد يميل الشاعر المعاصر إلى الانزياح في اللغة والأسلوب، وإلى اللَّاتحديد في المعنى والدَّلالة، بوصفهما وسيلتين لتكثيف الشعرية في النص؛ إذ يمنح الانزياحُ النصَّ قدرةَ الخروج عن المألوف، ويتيح اللاتحديدُ انفتاحًا دلاليًّا وتعددًا في المعنى، ليغدوَ النص بذلك فضاءً تأويليًّا مفتوحًا، وليغادرَ حيِّزَ النثرية إلى آفاق التفاعل الجمالي والشعرية العالية.. وقد يرى الشاعر أن الأنسبَ له أن يتوسط في ذلك: فيعيِّن الزمن هنا ويجعله مبهمًا هناك، ويُظهر ملامح المكان هنا ويخفيها هناك، ويكثِّف الفكرة هنا ويُبعثرها هناك، ويُظهر شخصيةً هنا ويُواريها خلف القناع هناك، ويصرِّح بالمعنى هنا ويلمِّح إليه هناك، ويستخدم اللغة الشفافة هنا ويغلِّفها بالرمز هناك، ويبسِّط الخيال هنا ويعقِّده هناك.. ليصنع من هذا التوتر نسيجًا شعريًّا حيًّا، تتحرك دلالاتُه في اتجاهاتٍ متعدِّدة، وليظلَّ النص بذلك مفتوحًا على تأويلاتٍ متجددة لا تستقرُّ على نمطٍ متشابه أو موحَّد من القراءة.
- والشاعر المعاصر يعتمد غالبًا على التصوير والاستعارة، بلا أدواتِ تشبيه، أو يوظف هذه الأدواتِ مراتٍ قليلة، بطرقٍ جديدة، وبتشبيهاتٍ متطورة وغير مألوفة، ليصنع صورًا شعريَّة تنبض بالحياة وتبتعد عن النمطية، وليصبحَ التصوير عنده فعلًا إبداعيًّا يتجاوز الأشكال التقليدية، ويعتمد على الابتكار.
- دقة ملاحظة الشاعر لما يتكرر في شعره من أساليبَ وعباراتٍ وأجواءٍ عامة؛ تُسهم في وعيه بنمطه الخاص، وتساعدُه على الاتجاه إلى التنويع في تجربته الشعرية، وتجاوزِ الأساليب المتشابهة.
- وأنت تحدد طريق القارئ إلى قصيدتك الجديدة، بين كلماتها الحيوية وصورها وأخيلتها المخترَعة وبلاغاتِها العالية؛ لا تنس نصبَ بعض "الكمائن" اللطيفة في طريقه، وهي عباراتُ الشعراء التكميلية، ولمساتُهم المألوفةُ لدى القراء، لأنها تضيف نوعًا من التوازن إلى النص، وتكسر رتابته، وتُبقي القارئَ مشدودًا إليه.
- القصيدة الجيدة تُشبع رغبة القارئ بالمضمون والصور، ونهايتُها المقنِعة تأتي في وقتها ومكانها تمامًا، ولا تأتي بشكلٍ مفاجئ أو مستعجَل ضمن سياقٍ مبتور؛ إلا في بعض الأساليب التجريبية المعاصرة.
- حين يُدرك الشاعر مكامنَ القوة في شعره، ويعملُ على صقلها وتطويرها بوعيٍ إبداعي، تتحولُ إلى مرتكَزاتٍ فنية تدعمُ تجربته، وتقوي بقيةَ الجوانب الفنية فيها، فعلى سبيل المثال: إذا عرف أن قوَّتَه تكمن في تنوُّعه اللغوي وثروته المعجمية، وعمل على تطوير هذه الميزة لديه، ودرس كيفيةَ استثمار مخزونه اللغوي شعريًّا، انعكس ذلك على نصوصه بمفرداتٍ أكثرَ دقةً وعمقًا، وأساليبَ تعبيريةٍ أكثر ثراءً؛ مما يمنحه قدرةً أكبر على توليد الصور، وتكثيف الدَّلالات، وبناء المعاني، وصياغة التراكيب اللغوية الخاصة والمتميزة.
- ليس كل ما يخطر في ذهن الشاعر عند الكتابة قابلًا للتحويل إلى كلمات، ولكنه يستحقُّ الإنصاتَ إليه ومحاورتَه وتأمُّلَ وجوهِه المختلفة، ففي تلك اللحظات يتشكل التفكيرُ الإبداعي وينمو ويقوى.
- تحويل أيِّ خاطرة أو مشهد أو موقف إلى قصيدة، أمرٌ يُجهد الشاعرَ وشعره، ويُفقدهما التوهُّج ومتعةَ الإبداع، والكتابةُ عن كل حدثٍ عابر ليست ضرورة، وكذلك لا يُشترط أن تُكتب القصيدة عن تفاصيل حالةٍ واحدة أو موقفٍ واحد، إذ يمكن للشاعر أن يجمع حالاتٍ ومواقفَ عديدةً مرَّ بها، ويجعلها تحت موضوعٍ عام.
- إذا وزع الشاعر جهدَه على فنونٍ متعددة، شعريةٍ ونثرية، فقد يجد صعوبةً في بناء مشروعه الشعري المتكامل، وتخفيفُ الحِمل عن طريق التخصُّص في فنٍّ واحد، أو فنَّين متقاربين، مما يساعد الأديبَ على بناء مشروعه الأدبي، ويمنحُ موهبتَه وتجربته الإبداعيةَ حقَّهما ووقتهما الكاملَ للنضوج والنجاح.
- كلما علا صوتُ الشاعر، خفَتَ صوتُ إبداعه، وكلما اقترب من الواقعية التي تفتقر إلى الخيال، ومن المباشَرية والأسلوب الحماسي، ابتعدَ عن الإبداع بالشعر وعن القصيدة الباقية.. والأكثرُ تأثيرًا هو الشعر الذي يخاطب القارئَ بصوتٍ هامسٍ يؤثر في نفسه من دون أن يُحدث ضجيجًا.
- هل كلُّ ما يخشى الشاعر من عدم استحباب القارئ له، ويتوقع أنه غير مناسبٍ للجماهير؛ هو غير مناسبٍ لها حقًّا؟ أحيانًا تكون العبارة أو الكلمة الغامضة أو الغريبة جميلةً لدى القارئ، يتذكر القصيدةَ بها حتى لو لم يفهمها، وتبقى في ذاكرته حتى يجدَ لها تفسيرًا، وإذا اقتنع الشاعر بما كتبه فنيًّا، فيمكن أن يتركه في النص بلا تغيير، وله أيضًا أن يسمح لما فاض به الطبعُ وجاء مرتجَلًا عفوَ الخاطر بالعبور إلى قصيدته إذا رآه مناسبًا وجميلًا.
- وفي الوقت نفسه، يعتني الشاعر بجمال عبارته، ويُظهر سلامة ذوقه في الكتابة، فلا يأتي بتراكيبَ يشُوبها الاضطراب أو التعقيد النحوي أو ما يمكن أن يؤديَ إلى تشتيت القارئ، فحُسن ترتيب الكلام جزءٌ من جمالية الشعر، وتجنُّب العبارات الملتبِسة يمنح القارئ الثقةَ ليكمل قراءة النص، ويعينُه على الانسجام والتفاعل معه.
- من الصعب إرضاءُ جميع القراء في قصيدةٍ واحدة، ولكن يمكن للشاعر أن ينوِّع أفكاره وصوره وتعابيره، لتُراعيَ أذواقًا متعددة، ولتكون قصيدتُه شاملة، وغيرَ مقتصرةٍ على فئةٍ معيَّنة من القراء، فالمُخاطَب في الشعر ليس قارئًا واحدًا، بل أطيافٌ عديدةٌ من المتلقين الذين لا يغيبون تمامًا عند كتابة النص، ولا يَحضرون حضورًا مباشرًا، بل يَلوحون كأُفقٍ متوقَّع، وهذه المُراعاة ليست مجاملةً أو تنازلًا فنيًّا، بل تعبيرٌ عن وعيٍ بأسلوبية التلقي، وبتعدُّد مستويات التأثير، حيث يكتب الشاعر نصًّا قادرًا فنيَّا على مخاطبة أكثر من ذائقة، من دون تفريطٍ بجوهر الشعرية.
- الشاعر الجادُّ الباحث عن الإبداع لا ينشغل بمنافسة الآخرين، بل ينافسُ نفسَه، وينشغل بتطوير فنيَّاته وأساليبه، وبتحسين قصيدته في كل مرةٍ يكتب فيها.
- للكثير من الشعراء طرقهم الخاصة في تركيب الكلام، وتقطيعِ وتوزيع الجُمَل، وتنسيقِ جماليات التشكيل البصري للنص، وتنظيمِ العلاقات بين أجزاء وأبنية القصائد، والوصلِ والفصل بينها، ولهم طرقهم في الدخول إلى النص والخروج منه، وفي التنقل بين الأفكار، والوَثباتِ الشعرية - الشعورية (لحظات التحوُّل والقفزات الفنية والإبداعية المدهشة)، والربطِ اللغوي بين المقاطع، وإحداثِ التوازن بين البداية الجميلة والنهاية الأجمل، وكذلك في صياغة الجُمل الشعرية، وإضافةِ الكلمات إلى بعضها، والتصرُّفاتِ العَروضية، وكتابةِ الأنواع الشعرية الجديدة، وتطويرِ الأنواع المطروقة.. وتأمُّلُ المبدع لهذه الطرق يساعده على فهم حِرفة الشعر وصَنعته، ويمنحه وعيًا أكبرَ بأساليب بناء القصائد.
- للشاعر عينٌ مُحيطية، فهو يحلِّق لكي ينظرَ من الأعلى ويستوعبَ التياراتِ والمدارسَ الأدبية الإبداعية وتفرُّعاتها، ويتابعُ التطورات التي جرت وتجري داخلها، ويرصد حركة الآداب والثقافات المختلفة، ويرى الصورةَ الموسَّعة لها قدرَ المستطاع، وهذه الإحاطة تسهم في فهم المشهد الأدبي والثقافي من منظورٍ أرحب، وبهذه النظرة الواسعة؛ يستطيع القارئ أن ينظر إلى القصيدة أيضًا، ليكوِّن فكرةً سريعةً عن مزاياها وأهميتها، ويسجلَ ملاحظةً عامة عنها (مثلًا: موضوعها نادر ومختلف، تعكس ثقافة الشاعر الواسعة، التناصُّ فيها واضح، تتميز بتقنياتٍ جديدة)، ويمكنه أيضًا أن يحدد ما تهدِف إليه القصيدة، والجديدَ الذي قدَّمته في المبنى والمعنى باختصار.. ليكون متابعًا للمسارات الإبداعية العامة للشعراء.
- كنزان في الشعر المعاصر لم يُكتشفا، وينبوعان لم يفجَّرا: اللغة والروح! هل قرأت قصيدةً ثم تساءلت: يا لَجمالها.. ولكن كيف لم أتأثر بها؟ وأين الروحُ فيها؟ ربما يحتاج الشاعر الذي يقلُّ في شعره التأثيرُ الروحي العميق على القارئ إلى معالجة أسباب هذا الجفاف، ويمكن أن يطرح على نفسه هذه الأسئلة: كيف أصِلُ إلى روحي أولًا؟ ثم كيف أبثها في القصيدة، وأمرِّرها إلى القارئ؟ كيف أستجلبُ شعورَ الروح الصادق؟ كيف يكون شعري قريبًا إلى نفس القارئ؟ كيف أصل إلى روح القارئ وأؤثر فيها؟ كيف أجعل كلماتي وعباراتي تلامس القلوب؟ كيف يكون التواصل بين روح القارئ وروح النص؟ كيف أجعل النصَّ متوهجًا كأنَّ فيه روحًا حقيقية؟ وماذا يلزمُني لذلك؟ كيف أعبِّر بالكتابة عن طبيعتي النفسية وروحي الحقيقية؟ وكيف أتتبع - في أثناء الكتابة - ذلك الخيطَ الخفيَّ بين الشاعر والروح والنص والقارئ؟ وهكذا، حتى تظهر الروح في كتاباته وتمتزجَ بجمال شكل قصيدته؛ ليتضاعف سحرُها ويقوى تأثيرُها على القارئ.. إن تلوين القصيدة بألوان الحياة والنفس يمنحها الحيوية، ويقربها من التجربة الإنسانية بكل ما فيها من غنًى وتفاصيل، وهذا الاشتغال الواعي على الروح هو مرحلةٌ متطورة من كليشة "العاطفة الصادقة".
- بعض القصائد قد لا تكون محمَّلة بكل الروح والعاطفة التي اختبرها الشاعر في لحظة الكتابة، وكأن التعبير عن المشاعر فيها ما هو إلا صدًى يحاكي حالته من الخارج، ولا يتوغل في أعماقها؛ مما يجعل القصيدة غير قادرةٍ على التأثير في القارئ، أو على الوصول إلى جوهر التشافي الذي ينشُده الشاعر بالكتابة.
- الشعر فنٌّ للإبداع، ثم للتعبير عن الأفكار المتداعية والتوجُّهات والقناعات الشخصية والقضايا العامة، وهو قِيمةٌ وتأثيرٌ وزِينة، وتمكُّن الشاعر من تضمين القِيَم الدينية والتربوية والرسائل الفكرية والأخلاقية بطريقةٍ صحيحة في قصيدته يرتبط بموقعها من قناعاته وتجاربه الشخصية، وبتطبيقه لها، وبطريقة معالجته الفنية لها، ومدى قدرته على توظيفها ضمن السياق في مواضعها الملائمة، وكلما كان الشاعر متلبسًا بهذه القيم وعارفًا بمعجمها وطرق التعبير عنها؛ ازدادت إمكانيةُ إبداعه في طرق عرضها، وتكمُن براعة الشاعر في الالتفاف الإبداعي حول هذه القيم، عبرَ التلميح لا التصريح، واختيارِ الصور والأساليب الشعرية التي تعمِّق أثرها، بحيث تُسهم هذه القيم في تشكيل الرؤية الفكرية للنص، وتَظهر من خلال ثيماته الرئيسة والفرعية، ومن خلال إلماعاتِه وإيماءاته المكثفةِ وغير المباشرة، وبحيث يتم تهيئة السياقات - قبل القيم وبعدها - لذكرها، أما القصيدة التي تُبنى بكاملها على أساسٍ قيَمي، فإنها تحتاج إلى إطارٍ فني مميز ومختلف، يُضفي على المضمون عمقًا وجاذبيةً وتأثيرًا، بحيث لا تُقدَّم القيمُ الكبرى والصغرى فيها بطريقةٍ تقليدية، وإن كان ولا بد من طرح القيم بالأسلوب المباشر أو بطرق التعبير الموروثة؛ فليقترن هذا الطرح بسعيٍ جادٍّ لتقديم أفكارٍ ومعانٍ جديدة، وصياغاتٍ شعرية مبتكرة ومميزة، تنأى بالنص عن التكرار والنمطية (حلول إبداعية تنطلق من الواقع وتستثمر المتاح).
- لا شيء يعادل لحظة إدراك أن النص الذي كتبتَه قد غيَّرك، وأصبح تجربةً حية تركت أثرًا في كِيانك! فقد جُلت في أعماق روحك وأنت تكتب، وعالجت آلامها، واكتشفت شيئًا جديدًا عنها، فعكسَ هذا النصُّ وعيَكَ وتطورك الداخلي في رحلتك الفكرية والشعورية.
- هل نسي الشعراء البحثَ عن الجمال في أحداث حياتنا المأساوية؟ أجمل القصائد قد تولد من قلب الحزن؛ ولكن حين نراه بعيونٍ مختلفة.
- لا يكفي أن يُشير الشاعر إلى إخفاقات الشعراء، أو أخطائهم الدقيقة، أو مَواطن الضعف لديهم، فالأهم أن يتفاداها في شعره، ويطوِّرَ ما أخفقوا فيه، ويحوِّله إلى مصدر قوة.
- قراءة الشعر العالي بلا تعمُّق، مثل شرب شرابٍ لذيذ بلا تذوُّق، وروائعُ الشعر مَعينٌ لا يَنضب، يعود إليه المتذوق كلما ظمِئَ إلى الجمال العذب الزُّلال، ليرتويَ من فيض خياله وإلهامه، ويغسلَ به قلبَه وروحه.
- لكل شاعر "مفاتيح قراءة" يمكن أن يصل القارئُ من خلالها إلى أسرار شعره، ويفتحَ بها أبواب دواوينه، وسوف يجد بعضها في ثنايا سيرته وحواراته والدراساتِ المكتوبة عنه.
- الشاعر الفنان! يكتب القصيدة كأنها لوحةٌ تجارية معروضة في واجهة متجر: تَسلُبك من النظرة الأولى بتفاصيلها وألوانها اللامعة، ولكنك كلما اقتربت منها خفَّ بريقُها، واكتشفتَ عيوبها، ووجدتها فارغةً أو ناقصةً من الداخل، نعم هي قصيدةٌ تُبهرك من الخارج، ولكنها تذبُلُ في عينك كلما أعدتَ قراءتها، لأن جذورها لم ترتوِ بمياه الأعماق الصافية، تسكن في العين لا في القلب، وصُنعت لتُعجِب لا لتعيش.. وعلى النقيض من هذا النوع، هناك قصائدُ يزداد بريقُها مع كل قراءةٍ جديدة، ويكتشف القارئُ طبقاتِها شيئًا فشيئًا كلما تعمق فيها.
- لا بأس بأن يُعيد الشاعر استخدام فكرةٍ أو صورة أو مفردة مميزة في أكثرَ من مجموعةٍ شعرية، ما دام يعيدُ اكتشافها ومحاورتها، ويمنحُها حياةً جديدة، ويضعها في سياقٍ مختلفٍ يعمِّق معناها.. المهم أن يكون هذا التَّكرار واعيًا ويخدم النص.
- بعض القصائد تُبنى بالصمت أكثر مما تُبنى بالكلام، لم يقل الشاعر فيها شيئًا لافتًا، بل كتب الفجوة والفراغ، الغيابَ والبعاد، المسافاتِ الطويلة، النفسَ المشتَّتة، بالإشارات والرموز.. وهناك قصائدُ هادئةٌ وهامسة، لا تُقرأُ بصوتٍ عالٍ، ولا تصلُح للإلقاء على المِنَصَّات.. إنها تنتمي إلى عالم التأمُّل، وصمتِ النص، وكلامِ المشاعر، لا إلى عالم الأضواء والجماهير، وهي تُقرأ بالقلب لا بالأذن.
- الرمز الشعري فضاءٌ حُرٌّ للتعبير، وأداةٌ لتكثيف المعنى وتوسيعه، وهو يُخفي أكثر مما يُظهر، ويُبقي النص مفتوحًا على احتمالاتٍ متعددة من التأويل والتلقي، وتمويهُ المعاني وتنويع التجلِّيات الفنية للأفكار يفتحان المجال لتعدُّد القراءات، واستخدامُ الرموز الكبرى والصغرى يجعلُ من النص مساحةً حُرَّةً لتبادُل الأفكار بين الشاعر والقارئ.
- بعض الكلمات والتعابير الجميلة تمرُّ على باب القصيدة، ولكنها لا تدخل.. تلوِّح للشاعر ثم تمضي، كأنها تعرف أن الوقت ليس وقتَها، فيحتفظُ بها الشاعر حتى يحينَ موعدها.
- أحيانًا تكتب لا لأنك شاعر، بل لأنك على وَشْك الانهيار.. القصيدة في تلك اللحظة ليست عملًا فنيًّا، بل إسعافٌ طارئ لروحٍ تتكسر، يُعيد الاتزان إليها.. وقد لا تُعجب البعض، ولكنها ضروريةٌ لك، فقد كتبتها لتُداوي بها نفسك، وليس لكي تُقرأ.
- بعض القصائد لا تُكتب من البداية، بل من نهايتها.. إنه البيت الأخير الذي يسكنك أولًا، ثم تبدأُ في حفر الطريق إليه، وكأنك تعرف مصيره، وتحاول أن تبرِّر له البداية!
- الشعر "المتوسط المؤثِّر الجميل" صُنع من نقصٍ لا من اكتمال، لم يكن عظيمًا، ولكنه كان صادقًا، وُلد في مرحلة عجزٍ عن التعبير البلاغي المتكامل؛ لطغيانِ الكثير من الأحاسيس والمشاعر الصادقة، ولهذا بقي متداوَلًا على مَرِّ العصور، ولهذا لامسَ القلوب، لأنه يُشبِهها.
- حياة الأديب جزءٌ مهم من حياة أدبه، وقوَّةُ المدرسة الأدبية تكمُن في وجود مؤسسيها، وعندما يرحل أحد الأدباء، ترحلُ معه أسرارُه الإبداعية وجزءٌ كبير من مذهبه الخاص، وعندما ترحل مجموعةٌ منهم، تصبح المدرسة التي شكَّلوها حاضرةً في الورق وفيما يُكتب عنهم، ولكن بلا حضورٍ حيويٍّ ملموسٍ لدى متابعيهم، والواقع أن الذكرى وحدها لا تكفي، وأن الأدباء يُنسون كثيرًا بعد وقتٍ قصيرٍ من رحيلهم، ولذلك فإن تدوين الشاعر للتفاصيل الفنية لتجربتِه يُتيح للمبدعين والقراء فهمًا أعمقَ لنصوصه في أي زمن، والشاعر أدرى الناس بشعره، وأقدَرُهم على كشف ملامحه وتقنياته الخفية.
- يستثمر الشاعر المحترف خبرتَه الثقافية وذخيرتَه المعرفية في مختلِف العلوم لإثراء قصيدته وتوليد أفكارها (إبداع معرفي مندمج ببنية النص الشعري، بشكلٍ إبداعي مباشر، أو عن طريق الإحالة والترميز والتخييل)، ويقيِّد ما يمكنه الاستفادةُ منه في الشعر أثناء قراءاته اليومية، لأن ذلك يدعمُ تجربته، ويقوِّي تأثيرها؛ على ألَّا يصل إلى مرحلة سرد المعلومات أو استعراض الثقافة.
- الشعر عملية إلغاء: إلغاءٍ وتعديلٍ واستبدالٍ مستمرٍّ أثناء الكتابة، وإلغاءٍ لما سبق بالانقلاب على أساليبه، وهذا الانقلاب لا يعني أن يتنكَّر الشاعر لأساليبه، بل أن يتحرَّر من أَسرها، وأن يتركَ - مع كل قصيدةٍ جديدة - جزءًا من عاداته وأساليبه القديمة في الكتابة، لكي يمنحَ نفسَه مساحةً أكبر للابتكار والتجديد، ويكتبَ بغير الطريقة التي "اعتاد عليها".
- لا بديل عن الدواء المُرِّ لمن أراد الشفاء، فلا تخَف من الشطب والحذف، بل تدرَّب عليه، فبهِ تتعافى القصائد.. وأحيانًا لا تحتاج قصيدتُك إلى إضافة بيتٍ جديد، بل إلى حذف بيتٍ مكتوب!
- حين يجد الشاعر أن أدواتِه الشعرية لم تعد تُرضيه، على الرُّغم من إتقانه لها، فذلك مؤشرٌ على نُضجه الفني، فما كان كافيًا في البدايات قد يُصبح عبئًا في المستقبل، ومراجعةُ هذه الأدواتِ وتطويرُها من حينٍ إلى آخر جزءٌ من السَّير على طريق الإبداع والتجديد.
- المعجم الخاص جزءٌ أساسي من الهُوية الشعرية، والشاعر يُبدع باللغة، ويرى الكلمة من جميع أبعادها واتجاهاتها، وهو صديقُ المعاجم، ومجدِّد معاني المفردات منذ القِدَم.. ولكن كيف يغيِّر شاعرُ اليوم معجمَه الشعري؟ وكيف يتنقَّلُ بين المعاجم ويختارُ منها؟ إذا كان معجمه كلاسيكيًّا تقليديًّا، وأراد أن يكون جديدًا معاصرًا، فالأفضل له الانقطاعُ عن قراءة الشعر الموزون وعدمُ التفكير به مؤقتًا، وقراءةُ بعض مجموعات قصائد النثر المميزة؛ لهذا الغرض تحديدًا، وبعُمقٍ وتركيز، مع دراسة لغتها وكيفية استخدام مفرداتِها الجديدة وطرقِ ربط كتَّابها بين الكلمات، ثم العودةُ إلى دراسةِ معجم قصائد التفعيلة بأنواعها ومدارسها المتعددة، وبعد أن يكتسب معجمًا حديثًا ويتمرَّنَ على الكتابة به حتى يُتقنه، يمكنه تطويرُ مخزونه اللغوي بقراءة مختلف أنواع المعاجم والدواوين القديمة والجديدة، ثم يختارُ ما يراه مناسبًا من الكلمات أثناءَ الكتابة، ويعيدُ تركيبها بطريقته الخاصة المتجانسة؛ مع تجنُّبِ حدوث اضطرابٍ وركاكةٍ وما يتسبب في إضعاف النص عند التنقُّل من معجمٍ إلى آخر، وهذا التنقُّل ليس ضروريًّا، فقد يرى الشاعر أن الأنسب له أن تكون مفرداتُه حيويةً ومناسبةً للذائقة العامة في زمنه، فالشاعرُ ابنُ عصره.. ولا ينسى أن معجمه الكلاسيكي سيخدِمُه كثيرًا في المستقبل؛ فاللغة متصلةٌ ببعضها، وفي أثناء ذلك، يمكنه أيضًا مراقبةُ المعاني الجديدة المضافةِ قديمًا وحديثًا إلى المعاني الأساسية للمفردات والتعابير المركَّبة، وكلمة "الشِّعر" نفسُها، معناها في أصلها القديم هو "الإنشاد والغناء" لا غير، ثم تطورت دَلالتُها وارتبطت في اللغة العربية بالفعل "شعَرَ" وبالعلم والإدراك والفهم، ويمكن للشاعر أيضًا أن يطعِّم شعره ببعض المفردات الخاصة غيرِ المعجمية، التي تدلُّ على جوانبَ من ثقافته، وتمنحُ نصَّهُ طابَعًا نخبويًّا يميِّز صوته عن الآخرين.
- يميِّز الشاعر بين لغة الشعر ولغة النثر في اختيار الكلمات وطريقة تركيب الجُمَل، فالشعر يتميز بلُغته العالية، وهو في جوهره نقيضٌ للنثر، لأن الأول إيحاءٌ وانزياح، والثاني إبلاغٌ وتقرير، ولم تعد ألفاظُ الشعر المعاصر معجميةً فقط، بل أصبح جمالُ معانيها يتشكَّل حسب السياقات المتنوعة، فهي تمرُّ بالمعجم والنص، وبتجربة الشاعر ثم القراء، وتتبدَّلُ معانيها أثناء ذلك، وتختلط دلالاتُها الضمنية بالظاهرية من قارئٍ إلى آخر، وبذلك يَغتني النص وتتسعُ آفاقُ تلقيه.
- التعبير المفاجئ، والكلمة الغريبة، والعبارة العصرية، لا بد من التمهيد لها لتكون شعرًا، وجمال المفردة أو العبارة الشعرية يكمن في انسجامها مع جوِّ القصيدة العام وأنساقها الشعرية، بحيث تبدو طبيعيةً في مكانها، وملائمةً لما قبلها وما بعدها، وكأنها نبتت من داخل النص، وليست دخيلةً عليه، ويكمن أيضًا في أن يُضفي الشاعر عليها مَلمسًا ورائحةً وألوانًا وطعومًا وأحاسيسَ نابضةً بالحياة.
- في أثناء القراءة العميقة، قد يواجه القارئ صورةً شعرية غريبة، أو عبارةً شديدة الإدهاش، أو تركيبًا لغويًّا خارقًا للسياق العام للنص، يبدو وكأنه قفزةٌ مفاجئة داخل نَسَقٍ شعريٍّ مستقر، وهذ الاختيار ليس عشوائيًّا لدى الشعراء المحترفين، بل هو خروجٌ مفاجئ ومقصود يهدف إلى إحداث صدمةٍ فنية وشعورية تكسر رتابة النص، وتتسبب في توقُّف القارئ عندها إذا كان لمَّاحًا، وربما يعيد بسببها قراءة النص، وهو أيضًا توتُّر أسلوبي يعبِّر عن شيءٍ لا يمكن قوله إلا بهذا الشكل المختلف؛ حين تعجَز الراحلة اللغوية العامة للنص عن حَمله واحتوائه، ويمكن أن يكشف عن طبقةٍ عميقة من التجربة ومن احترافية الشاعر وقدراته الإبداعية، وهذا الخروج لا يُقصَد به الإدهاشُ وحده، فهو يُعيد ترتيب العلاقة بين القارئ والنص، فينبِّهُه، ويدفعه إلى إعادة القراءة بتأمُّلٍ مختلفٍ يُعيد توجيه المعنى، وبذلك تصبح هذه "اللحظةُ الخارجةُ" المتعمَّدةُ علامةً على نضج الشاعر، لا على وجود اضطرابٍ في النص.
- ليس كل القصائد تمتلك شجاعة البوح، وليس كل الشعراء مستعدين ثقافيًّا وإبداعيًّا للمغامرة والتغريد خارج السِّرب وتجاوز واختراق الأُطر والقوالب الفنية لمدارسهم الأدبية، لتقديمِ رؤاهم الفنية المبتكَرة ضمنَها، وبناءِ عوالمهم الخاصة التي تعكس نظرتهم التجديدية للشعر.
- صعب وليس مستحيلًا: أن تكون منتميًا إلى مدرسةٍ أدبية لها إطارٌ فني صارم ومعجمٌ محدَّد، ثم تحاولَ الخروج من هذا الإطار والمعجم خروجًا مدروسًا إلى عالمٍ خاصٍّ بك يحمل فكرَ المدرسة نفسها، لأن ذلك سيتطلَّب جهدًا كبيرًا ودقيقًا للاستفادة من الخبرات السابقة ونقلها إلى الحالة الجديدة لتكوين فرعٍ مستقل أو اتجاهٍ جديد ضمن المدرسة.
- من علامات تطور الشاعر أن تبدوَ نصوصه القديمة له وكأنها كُتبت بقلمِ غيره، هذا الشعور يشير إلى تحوُّلٍ إيجابي في الذائقة، وتوسُّعٍ في فهم الإبداع، وتلك النصوص القديمة هي التي مهَّدت له الطريق إلى مستواه الحالي، وإن شعرَ بأنها لم تعد تعبِّر عنه.
- معرفة أسباب تعثُّر القصائد خطوةٌ إبداعية مهمة، فحين يدرك الشاعر مكامنَ الضعف في نصوصه، فإنه لا يكررها، بل يحولها إلى نقاط قوةٍ في نصوصه القادمة.. هذا الإخفاق النسبي المفسَّر هو طريقٌ مختصر إلى النجاح.
- الإبداع بالشعر أن يَكتب الشاعر من زاوية نظرٍ مختلفة، ويفكِّر خارج الصندوق، ويتضح شغلُه الشعري داخل النص، وأن يولِّد الأفكارَ من بعضها، ويتنقل بسلاسة بين الحسي والمعنوي، ويسِير بمرونة على السطور المستقيمة والمتعرجة، ويُوارب ويخاتل، ويلتفَّ حول الاستعارة، ويرمِّز ويُخفي، ويصوِّر ببراعة، ويخرج عن المألوف؛ فيتناول المألوف بشكلٍ غير مألوف، ويتناول غيرَ المألوف بشكلٍ مألوف، وينوِّع بين الذاتي والموضوعي، ويلمِّح ولا يصرِّح، ويكثِّف ولا يشرح، ويبحث عن طرقٍ وحلولٍ بديلة، ولا يكتفي بالقوالب الجاهزة، وحين لا يمتلك الجرأة على ذلك فإنه سيكتب نصًّا اعتياديًّا.. ففي الإبداع تحدٍّ ومغامرة، ويحتاج الاستمرارُ فيه إلى صبرٍ وعزيمة، وإرادةٍ وقصد، وثقةٍ وحذر، وتجاوزٍ للتحديات والعقبات، وتقبُّلٍ للإخفاقات، فهو ليس منطقةَ راحة، ولا مساحة أمان!
- النص الذي يترك سؤالًا في ذهن القارئ يظلُّ حيًّا بعد قراءته، فعندما يتوقف القارئُ ويفكر: "ما الذي يعنيه الشاعر بهذا؟"؛ يكون النص قد بدأ بالتأثير الحقيقي فيه.. والشاعر المتجدد يعرف كيف يبثُّ الحياة في ثنايا نصوصه.
- أحيانًا لا يعرف الشاعر كيف وأين يُنهي قصيدته؟ فيتردد بين أن يضع النقطة أو يكتب المزيد، وهذا التردُّد دليلٌ على انغماسه الكامل في النص، وعلى رغبته في أن يُنهي القصيدة في اللحظة الأجمل، لا الأقرب.. إنه قلقُ الشاعر الجميل، حين يخشى أن يختمَ القصيدة قبل أن تكتمل في وجدانه.
- ومن أصعب اللحظات في كتابة الشعر أن تقف حائرًا في اللحظة التي عليك أن تكمل فيها، لأنك لم تعد قادرًا على الإكمال بالمستوى الذي بدأتَ به، هذه الوقفة تقول لك: هوِّن الأمر، وأرِح قلمك الآن، واترك الباقي إلى الوقت المناسب.. فبعض القصائد لا تُكملها الإرادة والقصد، بل يكملها التأمُّل والتروِّي وانتظارُ عودة الشغف، وإذا سكت القلمُ اليوم، فقد يتكلم غدًا بما هو أجمل.
- التعديل الجيد لا يغيِّر جوهر القصيدة، بل ينقِّحها ويُبرز قوَّتها، والمطلوب هنا هو التوازن، حتى لا يُفرِط الشاعر في التعديل، فيُفقد النص روحَ العفوية والتفكيرِ المرتجَل، ويحوله إلى تمرينٍ فني، بدلًا من أن يكون شعرًا حقيقيًّا يعبِّر عن إحساسٍ صادق.
- بعض العبارات قد تضرُّ بالقصيدة، لأنها حشوٌ زائدٌ لا يضيف إليها شيئًا جوهريًّا، أو لأنها غير مناسبة للسياق العام، ومن الأفضل أن يتخلى الشاعر عنها، لأنها قد تُثقل النص، وتُضعف انسجامه الداخلي، وتشوِّش الإيقاع الجمالي الذي بُنيت عليه القصيدة، مما يجعلها أقلَّ تأثيرًا في المتلقي، أو تجعله ينفِر منها.
- هناك قصائد لا تفسَّر، أو لا تحتاج إلى تفسير.. تُترك كما هي، ومن يحاول شرحها سيقتل دهشتَها.. مثل بعض الأحلام الجميلة!
- والشاعر لا يفسِّر شعره، بل يترك فرصةً بين طبقات النص لكي يفسَّر بطرقٍ متعددة، تتنوع حسب أذواق القراء ومستوياتهم، وإذا طلب أحدُهم منه تفسيرًا لبيتٍ أو سطر، فيمكنه أن يبدأ بسؤاله عن فهمه الخاص له، والمعنى الذي توصل إليه، ثم يقربه إليه بما يساعدُه على اكتشافه، ويسمحُ له بالوصول إلى معانيه بنفسه.. وفي شرح الشعر يضع الشارحُ نفسَه مكان الشاعر، ويبذلُ جهده للإحاطة بمعانيه، والتعبيرِ عن مُراده، بصياغةٍ جميلة وسهلة الفهم، وله أن يتوسع ويُضيفَ ما يدعم شرحه إذا كان يُجيد البحثَ في خفايا النصوص، خصوصًا إذا كانت عبارةُ الشاعر ذاتَ أوجُه، وربما أتى الشارحُ بمعانٍ صحيحة لم تخطر في ذهن الشاعر، وهذا مما يتأتى بتدريب الحسِّ على التحليل السليم، وبالتمرُّس في قراءة الشعر والنقد، وإدامةِ النظر في الدواوين وشروحها.
- لكل قصيدة وشعر:
- طبيعة شعرية عامة (مثلًا: تأمُّل، هدوء، رومانسية، وجدانية، التزام، رزانة، غضب، فرح، سوداوية، جرأة واقتحام، حزن وتألُّم، وضوح، غموض) تتداخل مع أمزجةٍ ومشاعرَ متعددة ومتناقضة.
- طريقة كتابة وصياغة شعرية (خاصة أو مقلَّدة أو بينهما، وهي نوعُ الكتابة الفطريَّة، أو النمطُ الذي يسيرُ به القلم على الورق، وتصاغُ به الأفكار والمعاني، هكذا بشكلٍ مجرد)، وهذه الطريقة لها أوصافٌ تنطبق عليها وعلى القصيدة معًا (مثلًا: متماسكة، متينة، مَرِنة سَلِسَة، قوية ممتازة، جيدة متوسطة، ضعيفة ركيكة، متذبذبة، متكاملة، عميقة، سطحية).
- هوية شعرية إبداعية فردية (بصمة خاصة، متفرِّدة، يتميز بها المستقلُّون والباحثون عن الإبداع، وبها يُعرف شعرهم عند قراءته، فيقال: هذا البيت أو القصيدة لفلان. وهذه الهُوية الإبداعية لا تقلَّد إلا جزئيًّا؛ لأنها مصنوعة ومتعلقة بالموهبة الشخصية).
- مدرسة شعرية.
- مدرسة أو اتجاه فرعي، أو مدارس فرعية مجتمعة.
ومن المفيد أن يركز قارئُ الشعر وكاتبه على هذه التصنيفات أثناءَ القراءة المحيطية الخارجية والعميقة، لأنه - مثلًا - قد يكون تابعًا لمدرسة شعرية معاصرة، ولكنه يكتب بأسلوبها التقليدي والقديم، وليس بأساليبها الجديدة المتطورة.. ثم لا يتكئُ على هذه التصنيفات، بل يسعى لصناعة تصنيفه الفرعيِّ الخاص، فقد يتحول جهدُه إلى مدرسةٍ يَبنيها من يسيرون على خُطاه.
ومن المفيد أيضًا أن يدرِّب القارئُ ذائقته على تمييز الخصوصية الأسلوبية لدى الشعراء القدماء والمعاصرين، فكما تميَّز لَبيد والنابغة - مثلًا - ببراعتهما في تصوير مشاهد الصَّيد؛ كذلك يتميَّز كل شاعر بمَلمحٍ أو طابَعٍ خاص يُمكن تتبُّعه في تجربته الشعرية.
ومن المهم أن يكون الشاعر واعيًا باتجاهه العام أو نمطه الأساسي في الكتابة، فيَعرف هل هو مثلًا: شاعر رؤيا، شاعر فكر وقيَم، شاعر تجريبي، شاعر رمز، شاعر ذاتيُّ التعبير، شاعر موضوعي، شاعر وصَّاف، شاعر مناسبات عامة وأغراض شعبية، شاعر حماسي، شاعر إنساني واجتماعي، شاعر واقعي، شاعر قصص وملاحم، أو غير ذلك؟ ثم يرى هل الاتجاه الذي سلكه يخدِم الإبداعَ الحقيقي؟ وهل أبدعَ فيه؟ وكيف يتنقل بين بعض هذه الاتجاهات أو يجمع بينها؟
- يمكن تصنيف مستويات كتابة الشعر بشكلٍ عام إلى: كتابة بسيطة وعفوية (أساسية، أوليَّة، عادية، نظم)، تليها كتابة متقدمة ذاتُ أسلوبٍ وبناءٍ أقوى، وهي كتابةٌ متماسكة تظهر فيها جمالياتٌ وملامحُ إبداعية، ولكن ما تزال فيها مساحاتٌ في العمق تحتاج إلى تطوير، وتليهما الكتابة الاحترافية الإبداعية المتكاملة، وهذه المستويات لها أنواعٌ ودرجات بين القوة والضعف.
- قد يرى الشاعر أن يخصص لنفسه قائمة مراجعة إبداعية فنية (checklist) من ابتكاره، لكي يختار منها ما يكمِّل به نصوصه، ويراجعَ قصائده بناءً عليها، وله أن يطور هذه القائمة من حينٍ إلى آخر.
- الشاعر الذي يكتفي بالقول: هذا أنا، وهذا مستواي الشعري، ولا نيَّةَ لدي لتغييره؛ يتجمَّد، أما الذي يقول: هذا مستواي اليوم، وغدًا أطمح إلى أن أكون شاعرًا مختلفًا؛ يتجدَّد، ويمكن للشاعر أن يتخيل نفسه وهو في نهاية عمره الإبداعي، وهو يتأمل ما كتبه من قصائدَ أو دواوين، ويتساءل: هل كان ما كتبتُه مجرد محاولاتٍ متشابهة؟ أم أنها تحملُ بين سطورها آثارَ تعبي، وملامحَ من رحلتي الإبداعية، وصدقَ تجربتي في التجديد، وسعيي للوصول إلى صوتٍ شعريٍّ خاصٍّ بي؟ إذا كان الجواب هو الثاني، فقد يقول حينها بثقة: هذا شعري، وأنا راضٍ عنه إلى حدٍّ ما، لأني بذلتُ فيه جهدي، وتركتُ فيه أثري، ولم يكن كلُّ ما كتبته نسخةً مكررة من بداياتي.
- لكاتب هذه الأفكار والخواطر:
"تكونُ القصيدةُ أجمَلْ..
إذا انطلقتْ كالصهيلِ المُحجَّلْ
لمُنحدراتِ المعاني.. إلى قممِ المُتخيَّلْ
إذا غلغلَتْ بين أحراجِ أرواحِنا وسهولِ الكلامِ البليغِ المدلَّلْ
إذا أتقنَتْ معجمَ الحزنِ والفرحِ المُشتهَى.. وتكونُ القصيدةُ أكمَلْ:
إذا أُغلِقَتْ بأمانٍ مُفَتَّحةٍ للمؤوَّلْ".
* * * *
حماية حقوق النشر والملكية الفكرية:
(جميع الحقوق محفوظة للمؤلف)
تويتر (X) صهيب يوسف: @sohibmy
* * * *
مقالات في الإبداع الأدبي للمؤلف:
مقال عن ماهية الشعر والشهادات الإبداعية
نموذج لاستخدام التقنيات الجديدة في الشعر