من جذور أدب الأطفال العربي:
قصيدة البلوي إلى ابنه عبدالرحيم
لأدب الأطفال العربي جذورٌ قديمة احتفظت بها ذاكرة التراث، وتجلت في أشكالٍ متنوعة، ولكنها بقيت جزءًا من السياق العام للأدب العربي القديم، دون أن تتبلور كنوعٍ أدبي مستقل، وقد وقفت على قصيدة كُتبت قبل ما يزيد على 800 عام، بطريقةٍ تؤهلها لتكون في صدارة النصوص الشعرية القديمة ذات التوجُّه الواضح في الكتابة المستقلَّة للأطفال، ورأيت أن من المناسب تسليط الضوء عليها وإبراز قيمتها الأدبية؛ لما تتميز به عن تلك النصوص التي تهتم غالبًا بالإنشاد والغناء للطفل في مهده، أو بالنظم التعليمي.
المؤلف والقصيدة:
مؤلف هذه القصيدة هو يوسف بن محمد بن عبدالله بن يحيى بن غالِب، أبو الحَجَّاج البَلَوِي المالَقِي الأندلسي المالكي (٥٢٩ - ٦٠٤هـ / ١١٣٥ - ١٢٠٧م): من العلماء باللغة والأدب، ومن الزُّهَّاد المشهورين، مولده ووفاته بمالَقَة، تولَّى الخطابةَ بها، ويقال: إنه بنى فيها نحو اثني عشر مسجدًا بيده، ولم تفته غزوة في البر ولا في البحر، له كتاب "ألِف باء"، سماه الزبيدي "ألف با لِلأَلِبَّا"، وكتابٌ آخر توسَّع فيه بما أوجز في "ألف باء" من أخبارٍ وأشعار، سماه: تكميل الأبيات وتتميم الحكايات مما اختصر للألباء في كتاب ألف باء، وهو مفقود.([1])
والقصيدة من أدب الوصايا والإرشاد والتأديب، وموضوعها العام هو إهداء الكتاب، وهي من البدايات المبكرة للشعر الموجَّه إلى الأطفال، وقد تكون أولَ قصيدة "متكاملة" كُتبت للأطفال، وقد نظمها البلَوي لابنه، ودوَّنها في مقدمة موسوعته "ألِف با" التي اشتملت على العديد من العلوم، يقول:
"... وجعلتُ ما أؤلِّفُ فيه وأَبنِي، لعبدالرحيمِ ابني، ليقرأهُ بعد مَوتي، وينظرَ إليَّ منهُ بعد فَوْتي، إذ لَم يَلحق بعدُ - لصِغَرهِ - درجةَ النُّبَلاء، ولم يبلُغْ مرتبةَ العُقَلاء،([2]) أرجو أن يجعله اللهُ منهم، ولا يَقطعَ به عنهم، فيكونَ - إن شاء اللهُ تعالى - بقراءةِ هذا الكتاب في الزيادة، إلى أن يلحق بالسَّادة... وسمَّيتُ ما جمعتُ لهذا الطفل المُرَبَّى: كتابَ ألِفْ با، وقلت فيه:
هذا كتابُ أَلِفْ بَا * صنعتُهُ يا أَلِبَّا
مِن أَجْلِ نَجْلِيْ المُرَجَّى * إذا شَذا أن يَلِبَّا
أَدعُوْ لعِلمٍ، ومِن حَقِّ * مَن دَعَا أنْ يُلَبَّى
* * *
وأَنتَ عبدَالرحيمِ، الـ * ـطِّفْلَ الصَّغِيرَ المُرَبَّى
إذا عَقَلْتَ فقُلْ: قَدْ * رَضِيتُ باللهِ رَبَّا
وَدِينِ الِاسلامِ([3]) دِينًا * وَبِالنَّبِيِّ المُنَبَّا
مُحَمَّدٍ - قُلْ - رَسُولًا * وقُل: نَبِيًّا مُحِبَّا
ثُمَّ اسْتَقِمْ، واتَّبِعْهُ * تَزْدَدْ مِنَ اللهِ قُرْبَا
وَذَا الكِتابَ اتَّخِذهُ * لِدَاءِ جَهْلِكَ طِبَّا
فإنَّهُ صُنْعُ مَرْءٍ * طَبٍّ، لَمَنْ حَبَّ طَبَّا
هذِيْ وَصَاةُ أبٍ لَمْ * يَزَلْ لِشَخصِكَ صَبَّا
ولَوْ يُطِيقُ، عَلَيكَ الـ * ـخَيراتِ - أجمَعَ - صَبَّا
هذا كان السببَ في هذا المجموع، وليس - بحمدِ اللهِ - عن أحدٍ بممنوع، بل هو مباحٌ لمن طلبَهُ من الطَّلَبَة، ومُتَاحٌ لمن أرادَهُ من الرَّادَة".([4])
والقصيدة تنقسم إلى قسمين:
- قسم موجه إلى قراء الكتاب، يقع في ثلاثة أبيات، وفيه سبب تأليف الكتاب.
- وقسم موجه إلى نجلِه الطفل عبدالرحيم، يقع في تسعة أبيات، وفيه العديد من الأفكار والوصايا.
مقومات ترشِّح القصيدة لتكون من طلائع أدب الأطفال:
- أن المقطع الخاص بالطفل من القصيدة مخصصٌ له من أوله إلى آخره، وموجَّه إليه، وله بداية ونهاية تتعلقان بالطفل.
- اختيار الشاعر للبحر المجتث، الذي يتسم بقِصَره، وبسرعة إيقاعه نسبيًّا، مما يسهل على الطفل حفظ القصيدة وترديدها وتذكُّرَها، وهذا البحر قليل الاستخدام في شعر الأطفال المعاصر، مع أنه مناسبٌ لهم.
- بناء معظم أجزاء القصيدة من عبارات وتراكيب ومفردات سهلة وواضحة، مما يجعلها مناسبة لمستوى الطفل اللغوي والمعرفي في ذلك العصر وما بعده.
- الدخول المباشر في موضوع القصيدة، والإيجاز والابتعاد عن الإطناب، وقِصَر الأبيات والقصيدة ككل، مما يعكس فهم الشاعر لطبيعة الأطفال، وأنهم يميلون إلى التركيز على النصوص القصيرة.
- تقاطع أساليب كتابة القصيدة مع أساليب كتابة شعر الأطفال الكلاسيكي المعاصر والحديث، وتميُّزها باختلافها في بعض الجوانب عن الشعر والنظم القديم الموجه إلى الأطفال.
- وضوح مشاعر الأبوة الصادقة، مثل العطف والشفقة والحرص على مستقبل الطفل، وهي عناصر تربط الطفل بالنص عاطفيًّا، وتجعل من النص نَموذجًا مبكرًا لتوظيف العاطفة في أدب الأطفال.
- وضوح الهدف التربوي من القصيدة، والذي لا يقتصر على النصح وحده، بل يؤسس للقيم والأفكار الدينية والأخلاقية لدى الطفل، مثل الإيمان بالله ونبيِّه ﷺ، والاستقامة والتمسُّك بالدين، وهذا الربط بين الشعر والرسالة التربوية يجعل النص مؤثرًا ومميزًا، وتقديم النصائح الدينية والتربوية بأسلوب شعري سهل، وبالتناغم بين الأسلوب والمضمون، يسهم في إرساخها في ذاكرة الطفل.
- بدء الشاعر بمرحلة الطفولة المبكرة التي يعيشها ابنه، ثم تحديده للمرحلة العمرية المستقبلية بعبارة "إذا عَقَلْتَ"، وهو يقصد مرحلة التمييز (7 – 10 سنوات) التي يبدأ فيها تعليم الطفل وتلقينه باللُّطف والتدرُّج، ويبدأ الطفل فيها بأداء العبادات وإن كانت لا تجب عليه،([5]) وهذا التحديد يعكس وعيًا تربويًّا، ويربط محتوى النص بمستوى الطفل.
- ذكر القدوة العليا في القصيدة، وهو النبي ﷺ، إضافة إلى القدوة الحية، وهو الأب، وعنصر القدوة يشجع الطفل على الاقتداء بها، ويعزز مصداقية النص.
- الاستعانة في القصيدة بما يُتوقع أن يكون معروفًا لدى الأطفال في ذلك الزمن من أحاديث الأربعين النووية: (قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثم اسْتَقِمْ)، والأذكار اليومية: (رَضِيتُ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمحمدٍ ﷺ رسولًا)، وربما من الأمثال: "مَنْ حَبَّ طَبَّ"، ومعناه: مَن أحبَّ فَطِنَ واحتالَ لِمَن يُحِبُّ، وهذه الإشارات والاقتباسات تسهم في تقوية النص، وتعمق صلة الطفل بثقافته الإسلامية والأدبية.
- استخدام صيغة الأمر الموجه إلى الطفل، مثل: "اتَّبِعه، اتَّخِذه"، مما يضفي بعدًا تربويًّا عمليًّا على القصيدة، ويشجع الطفل على التصرف الإيجابي، وقد تطور هذا الأسلوب في شعر الأطفال، واتجه إلى الإقناع غير المباشر.
- استخدام صيغة "القول" كوسيلة لتعزيز التفاعل بين الطفل والقصيدة، ولتعزيز التواصل والحوار المباشر مع الطفل، حيث يضعه في موقف المتكلِّم، وهذا يشبه استخدام "الأنا" في شعر الأطفال المعاصر؛ للتعبير عن الحالة.
- تخصيص الطفل بذكر اسمه في القصيدة، وبذكر أنه طفل، والثناء عليه لتحفيزه وتعزيز ثقته بنفسه، من خلال قوله: " وأَنتَ عبدَالرحيمِ، الطِّفْلَ الصَّغِيرَ المُرَبَّى"، فلم يقتصر على وصف الطفل بصغر السن، بل أضفى عليه صفة "المربَّى"، وهو وصف ينطوي على تقديرٍ عميق للطفل، وعلى أنه ثمرةٌ لتربية واعية.
- التوظيف الرمزي للحروف، فالتعليم يبدأ لدى الطفل بحرفي الألف والباء، وفيه إشارة إلى طور تعلُّم الحروف.
يمثِّل هذا النص التراثي خطوةً رائدة في تقديم الشعر للأطفال، حتى لو لم يكن أدب الأطفال قد استقل كنوعٍ أدبي في ذلك الزمن، وهو نموذج ملهِم في كيفية بناء الشعر للأطفال، وربما اطلع عليه بعض روَّاد أدب الطفل واستفادوا منه في عصر نهضة الأدب العربي.
وهو يعكس دور الأب في عملية التربية والتعليم، فالأسرة هي المؤسسة الأولى لغرس القيم والمعرفة في نفوس الأطفال، ولم يكتفِ البلوي بتوجيه ابنه شفهيًّا، بل قيَّد نصائحه بالكتابة، وهذا الدور الأبوي يحمل رسالة عن أهمية التزام الوالدين بتعليم أطفالهم.
وإذا قارنَّا قصيدة البلوي بشعر الأطفال المعاصر، فسنجد أن هناك نوعًا من التشابه بينهما في الأسلوب من جانب سهولة الألفاظ والتراكيب والتوجيه والتعليم وبعض التقنيات، ولكن ما يميز هذه القصيدة هو تركيزها على الأخلاق والقيَم الدينية التي كانت تشكِّل أساس التربية في ذلك الزمن، أما شعر الأطفال المعاصر، فقد تنوعت مضامينه وتجددت، وأصبحت الأخلاق والقيم جزءًا منها.
وفي القصيدة مبادئ أصبحت - لاحقًا - أساسيةً في أدب الأطفال، أهمُّها الوعي التربوي ومراعاة السهولة في الخطاب الأدبي، وبالتالي فإن تحليل هذا النص يُبرز أهمية هذين العنصرين ودورهما في تشكيل أدب مستقل للأطفال.
([1]) الأعلام للزركلي: 8 / 247 - 248، "وهو مفقود" من المصدر التالي، 2 / 95: أندلسيات: في تحقيق النهر الشعري الأندلسي ونقدِه/ محمد عويد محمد الساير، وفيه جمعٌ لشعره.
([2]) أورد الزركلي هذه الفقرة في حاشية ترجمة المؤلف، وقال مستفيدًا من الأستاذ أحمد المهدي النيفر: "أنه حين صنَّفَ كتابَه ألف باء كان كبيرَ السِّن"، وقال: "قال السيد النيفر: فلا يَبعُد أن تكون وفاتُهُ بعد سنة التأليف بقليل"، الأعلام: 8 / 248.
([3]) الِاسلام: بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها.
([4]) كتاب ألف با، طبعة جمعية المعارف بالقاهرة، 1287هـ / 1870م. شَذا من العِلم شَذْوًا: أخذ بطرفٍ منه، يَلِبَّا: لَبَّ الشخص: صار ذا عقلٍ ونَبَاهة، فهو لبيب، طَبٍّ: الطَّبُّ بالشيء: الخبير الحاذق الماهر بمعالجته، الوَصَاة: الوصية، والنُّصح والإرشاد، صَبًّا: مشتاقًا وذا حُبٍّ شديد، الرَّادَة: رادَ الشَّيءَ: أرادَهُ وتَلَمَّسَهُ وطَلَبَه، فهو رائد، والجمعُ: رَادَةٌ ورُوَّاد.
([5]) ينظر للمزيد: تصنيف المراحل العمرية/ د. عبدالله الطارقي: ص 115 - 117.