دواوين محترقة!
(شعراء أحرقوا دواوينهم، أو أوصَوا بإحراقها)
صهيب محمد خير يوسف @sohibmy
ويوم تملُّ النفسُ كل رَغيبةٍ
وتذبلُ أوراقي وأجفو حياتِيا
سأحرقُ أشعاري وكلَّ خواطري
وأَخرجُ منها لا عليَّ ولا لِيا!
هذا ما قاله الشاعر والبلاغي عبدالعزيز عتيق في ديوانه أحلام النخيل، ولكنه لم يحرق قصائده، ونشر في حياته أكثر من ديوان، فكان ما قاله ضربًا من أفكار الشعراء القابلة للتغيير.
ويبدو أن الندم على كتابة الشعر والخوف من المحاسبة على بعض مضامينه بعد الموت، هو السبب الرئيس لحرق بعض الشعراء جميعَ دواوينهم وقصائدهم، ويليه الإحباط وما قد يحيط به من إهمالٍ وعدم سؤال، كما سنرى.
* * * *
من عادة الشعراء ألا يُظهروا جزءًا من شعرهم للقراء، خصوصًا بداياتهم الشعرية، لتواضع مستواها واختلافها عن بقية شعرهم، أو لأسباب أخرى كالتخلي عما فيها من أفكار، وقد يُتلفون هذا الجزء من شعرهم أو يحرقونه لكي يتخلصوا منه فلا يبقى بعدهم، أما أن يحرق الشاعر جميع شعره، أو أن يوصي بحرقه بعد وفاته، فهذا نادر الحدوث، وقد مر بي في يومين متتاليين شاعران قاما بذلك، فكان ما قرأته مدعاةً للاستغراب والبحث عن المزيد من هؤلاء الشعراء وعن أسباب إحراقهم لشعرهم، واقتصرت في البحث على من عاشوا في عصرنا أو قريبًا منه، وركزت على الحرق دون الإتلاف، حتى لا يطول البحث ويتشعب.
حمزة شحاتة.. قدَّر أن أدبه غير مقدَّر:
كان الشاعر الأول من هؤلاء الشعراء هو حمزة شحاتة، فقد ذكر مؤلف كتاب: من رواد الأدب السعودي أنه "مزق قصائده وشعره بصفة عامة"، وبيَّن مؤلف كتاب: حمزة شحاتة ظلمه عصره "أن مردَّ ذلك إلى اليأس، فلم يُبق أدبَه لأنه قدَّر أنه غيرُ مقدَّر، وشخصيته الطاغية في قوَّتها وشمَمها، حين لم تنل نصيبها من الرفعة والتقدير والعناية... أعرض عن الناس والحياة، وأحرق شعره ومزقه شر ممزَّق، بل أقول: اعتزل الحياة والأحياء"! ثم جُمع شعره بعد وفاته.
أحمد علي المفتاح.. وسبب غير معروف:
وفي أثناء تصفحي لكتاب "أوتار قيثارة الرَّقَّة" استوقفني عنوان "أحمد المفتاح شاعر أوصى بحرق دواوين شعره"! يقول أخوه محمد: "عندما غادر في رحلته الأخيرة إلى سورية وهو مريض، ترك أشعاره وكتاباته عندي، وأوصاني أن أنقلها إلى الرَّقة، وأسلِّمها لولده فيصل؛ ليحرقها من دون أن ينشر منها شيئًا، طبعًا لم يقل لي السبب، ولا أعرف ما السبب وراء قراره ذاك! وقد عملت على وصيَّته".
ثم بدأت رحلة البحث عن شعراء آخرين أحرقوا جميع أشعارهم!...
عبدالسلام عيون السود.. في لحظة يأس:
يُذكر أن هذا الشاعر أحرق جميع أوراقه الشعرية والنثرية في لحظة يأس، وقد صدر بعد وفاته شيء منها، وهناك أكثر من رأي في حدوث هذا الإحراق من عدمه.[1]
مساعد بن عبدالله الرفاعي.. عُزلة وندم:
ضاعت قصائد هذا الشاعر، وأقدم بنفسه على إحراق كثيرٍ منها زمن اعتزاله الناسَ في آخر حياته، وجاء في كتاب الأدب المعاصر في الخليج العربي: "أحرق شعره قبل وفاته، ولعل السبب في ذلك ما ضمنه من هجاءٍ مقذِع"، وهكذا نصل إلى سبب آخر من أسباب إحراق الشعر، غير اليأس، وهو الندم على كتابة محتواه، والخوف من المحاسبة على مضمونه.
عبدالله النديم.. والندم على الهجاء أيضًا:
في آخر سنوات حياته سعى النديم لاستعادة ديوانيه المخطوطين من بعض أصدقائه لكي يحرقهما، لأن فيهما هجاءً كثيرًا، وسبب ذلك أنه كان يرى أن هذا الشعر لا يجمل بالحسيب ولا بالتقي الورِع، وقد كانت تلك نية الشاعر ورغبته، فهل حصل على ديوانيه وأحرقهما؟ لم أجد ما يثبت ذلك، فعبارة أحمد سمير في "سلافة النديم" تدل على مجرد العزم، وعلى التبرؤ من شعره: "أرسلَ إلي في مكتوبه الثالث أنه إنما طلبهما ليحرقهما براءةً منهما ومن أمثالهما"، وذكر أيضاً أن لديه "ديوان شعر يحتوي على ما يقارب عشرة آلاف بيت، وهو الآن محجور عليه في القسطنطينية"، ثم صدرت "نصوص عبدالله النديم"، وفي الجزء الأول منها مجموعة من أشعاره.
أحمد عبدالغفور الراوي.. ماذا أعطاني شعري؟!
يقول ابنه حسين: من المعروف أن أبي، وفي عام 1987، قام بإحراق جميع أعماله الشعرية، وقد كنت عائدًا إلى المنزل ظهرًا عندما شاهدته واقفًا أمام ركامٍ من الأوراق المتلَفة وهو يردد "ماذا أعطاني شعري؟ ماذا استفدت منه؟"، ويقـول: "لا أريد أن أواجه اللهَ شاعرًا"، ثم يكمل: بعد وفاته بأسبوع فتحنا خزانته أنا وإخوتي وأحد أعمامي لنتأكد من الحقيقة، فكانت مفاجأتنا شديدة عندما اكتشفنا أنه أحرق جميع أشعاره ولم يترك منها بيتًا واحدًا... إن كل ما جمعناه من شعره هو شتات وأجزاء من قصائد حفظَتها الصدور أو التقطناها من بعض المجلات القديمة فقط،[2] ويظهر أن هذا الشاعر قد أحرق شعره أكثر من مرة، فقد وقفت على عنوان مقالة نشرت عام 2003 بعنوان: الشاعر أحمد الراوي: لماذا أحرق شعره مرتين؟
عبدالرحمن بن صالح الخليفي.. وأسباب مجهولة:
لم تصل إلينا من شعره إلا قصائد قصيرة وقليلة، وقد أحرق ديوانه الشعري قبل أن يُتوفى، يقول مؤلف كتاب "العين البصيرة": ليس يُدرى إلى الآن سرُّ إحراق الشاعر ديوانه - وأكثره نبطي - الذي لم يبقَ منه سوى ما أُلحق بعمله "بستان الأكياس والأفراد من الناس".
أبو بكر بن محمد بن المهدي الجرموني.. وتسارع الأحداث:
أحرق شعره، ولم يسلَم منه إلا ما قام بجمعه والتعليق عليه "أحمد متفكر" تحت عنوان: من أشعار أبي بكر الجرموني، ويُذكر أن الأحداث المتغيرة والزمن المختلف حمَلاه على معاناة أفكار وتأملات أخرى استدرجته إلى هجر الشعر وحرقِ ما كان له منه، فلم يفلت منه إلا ما دوَّنه بعض أصدقائه لأنفسهم من شعره.
حمود الناصر البدر.. وهموم الحياة:
شاعر نبطي، يقول عنه مؤلف كتاب شعراء الموال في الكويت: عصرته الدنيا بهمومها حتى إنه أحرق شعره في أُخريات أيامه، وجاء في مقال كُتب عنه: وعلى الرغم من ضياع العديد من القصائد التي قالها الشاعر لأسبابٍ عدة، منها ما يقال بأنه كان يحرق بعض قصائده، إلا أن ذلك لم يكن عائقًا أمام انتشار قصائده.
المازني وعبدالرحمن شكري.. هل أحرقا دواوينهما بعد نشرها؟
يتردد لدى بعض الباحثين أن إبراهيم عبدالقادر المازني هجرَ الشعر، وأحرق أشعاره بعد أن طُبعت وانتشرت بين الناس، ويذكر هو أن بعضهم عرض عليه إعادة طبع ديوانه بعد إضافة ما لم ينشر إليه، فأبدى عدم رضاه عما قاله من شعر في صدر حياته،[3] ويقول عبداللطيف عبدالحليم: ولو كان المازني أحرق شعره، وتركه للزمن يعبث به، ناكرًا لِما قال، لما حفلَ كتابه [حصاد الهشيم] بهذه القصائد والمقطوعات، وكلها في رثاء زوجه.[4] ويتردد لديهم أيضًا أن عبدالرحمن شكري، صديق المازني القديم، أحرق جميع ما لديه من نُسخ مؤلفاته ودواوينه بعد يأسٍ مطلق من عدالة الناس،[5] ولكن ملاحظة وردت في نهاية ديوانه تقول: "نشرت بعض الصحف أن الشاعر أحرق كل ما نظمَ من شعر، وما كتب من نثر بعد عام 1919، في نوبةٍ من نوبات اليأس، وهذا غير صحيح، فإن ما نظم وما كتب بعد ذلك التاريخ منشور في الصحف والمجلات".[6] والأمر يحتاج إلى مزيد بحث.
إحراق الشعراء لبعض دواوينهم وأشعارهم:
وهناك شعراء وشواعر أحرقوا بعض دواوينهم أو جزءًا كبيرًا من شعرهم، مثل الشاعرة عائشة التيمورية، التي قالت: "أما أشعاري الماضية فكنت قد أحرقتها كلها، ولا أظن أن في مكتبتي إلا الشيء اليسير منها بالعربية والتركية، وأما أشعاري الفارسية فإنها لمَّا كانت في محفظة فقيدتي [ابنتها] فقد أحرقتُها بمحفظتها كما احترقت كبدي"، وكذلك عمر بهاء الدين الأميري، الذي قال: "وأحرقت ديواني الأول وأنا ابن اثنتي عشرة"، والشاعر حسين سرحان، الذي قال: "وأحرقت شعري وآثاري الأولى"، وهناك آخرون غيرهم.
إحراق أهالي الشعراء دواوينَهم:
وأختم بشاعرين أحرق أهلُهما دواوينهما بعد وفاتهما، ولم يُذكر عنهما رغبتهما في ذلك، وهما: عبدالقادر بن عمر بن الشيخ امبارك (الشعيرة) المتوفى سنة 1342هـ، والذي أحرق ابنُ عمه ديوانَه،[7] وفهد بن صالح العسكر، الذي أحرق أهلُه شعرَه بعد وفاته، وتذكر مصادر أنهم أحرقوا شعره في حياته.
كانت هذه نماذج لشعراء أحرقوا جميع ما كتبوه من شعر، أو أوصَوا بحرقه، مقترنة بأسباب الإحراق التي استطعت الوصول إليها، تبين منها أن الشعراء الذين أحرقوا كل دواوينهم وأشعارهم قليلون جدًّا، ولم يكن الغرض من جمع أسمائهم الاستقصاء، بل تسليط الضوء على قضية الإحراق، ولفت الأنظار إليها، ومعرفة أسباب التخلص التامِّ مما كتبه هؤلاء الشعراء عن طريق الإحراق الذي أحالَ قصائدَهم رمادًا، وخلاصة هذه الأسباب هي التبرؤ من مضامين هذا الشعر، والتبرؤ من الشعر نفسه!
* * *
[1] ويُنظر للمزيد حوله مقال: الشاعر الراحل عبدالسلام عيون السود: هل أحرق مخطوطة ديوانه "مع الريح"؟/ ممدوح السكاف.
[2] من مقال: أحمد الرواي.. الشاعر الذي أحرق جميع قصائده/ هاني آصف الشويخ.
[3] كما جاء في كتابه "قصة حياة"، ص 106.
[4] أهم مائة كتاب في مائة عام: 2/ 55.
[5] عبدالرحمن شكري/ أحمد غراب، ص 41.
[6] ديوان عبدالرحمن شكري/ مراجعة وتقديم فاروق شوشة، ص 724.
[7] الخمير المفتوت معجم المصنفات الواردة في إدام القوت، ص 104.
