فكِّر بغيرك.. والإقناع الشعري بالإيحاء
الإقناع بالإيحاء هو أحد الأساليب أو المهارات النفسية الفعَّالة التي تهدف إلى توصيل الأفكار والمفاهيم إلى العقل الباطن (اللَّاواعي) بالإيحاء والإشارة والتمهيد، وليس بالقول المباشر المعتاد، ومن دون أن تتوقف هذه الأفكار كثيرًا عند العقل الواعي، بحيث يتم إضعاف العقل الواعي لتمرير الأفكار بعد تحقيق نوعٍ من التوافق بين الطرفين.
وقد اشتهر عالم النفس ميلتون إريكسون (Milton H. Erickson) باستخدامه المتقن لفن الإقناع غير المباشر بالإيحاء، مما دفع الخبراء إلى دراسة وتحليل منهجه، واستخلاص نماذج وأساليب متعددة منه، أُطلق عليها مجتمعةً اسم "اللغة الملتونية"،([1]) ومن أبرز هذه النماذج ما يُعرف بـ"مُجاراة الخبرات الحاليَّة"، وهي مهارة تعتمد على مواكبة الحالة الشعورية أو السلوكية الظاهرة لدى المتلقي (الخبرة الحالية) كمدخلٍ لإقناعه، وتبدأ هذه المهارة بقول: "وأنت"، بالصيغ المتعددة له، تليه عبارة مثل: "تشعُر بالتعب في عملك"، بهدف أن يقرَّ بها المتلقي ضمنًا، أو يقول في نفسه تلقائيًّا: نعم بالفعل أنا كذلك! ثم يتم تمرير الفكرة المطلوبة إلى عقله الباطن؛ حتى يقتنع بها، وهي مثلًا: "فكِّر في سعادة أُسرتك".
وفي السياق الأدبي، يمكن اعتبار قصيدة "فكِّر بغيرك"، للشاعر محمود درويش، تجربةً مبتكرة في توظيف أدوات الإقناع اللغوي، فقد تجاوز فيها التقنياتِ الشعرية التقليدية، ليقدم لنا نموذجًا جديدًا للتواصل مع القارئ، ونوعًا من الإقناع الإيحائي الشعري المبسَّط، وليقدم في الوقت نفسه نموذجًا مطورًا لاستعارة وتوظيف التقنيات غير الشعرية في شعر التفعيلة، وأسلوبًا جديدًا لتضمين القيَم في الشعر.
استعان الشاعر في هذا النص بمهارة مُجاراة الخبرات الحالية، واستخدمها حسَب ترتيبها المنطقي، فأتى بالقاعدة الأساسية لهذه المهارة، ثم اشتغل عليها بأسلوبٍ شعري، وبالتخيُّل والتصرُّف والإضافة؛ لأنه شاعرٌ يخاطب قارئه الغائب، وليس طبيبًا أو مختصًّا يتابع حالةً ماثلةً أمامه، فقال:
"وأنتَ تُعِدُّ فُطوركَ فكِّرْ بغيركَ [لا تَنْسَ قُوتَ الحمامْ]. وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ [لا تَنْسَ مَن يطلبون السلامْ]. وأنتَ تُسدِّدُ فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ [مَن يَرضَعُون الغمامْ]"... وهكذا.
فهو يتخيل - كشاعر - مجموعةً من الحالات (الخبرات) التي يعيشها قراؤه الآن، ثم يجاريهم ويسايرُهم فيها، ثم يمرِّر إليهم في كل خبرة قيمةً جديدة، كالشعور بالمسؤولية، والإيثار، والكرم، وترك الأنانيَّة، والحق في العيش الكريم، والتفكير الإيجابي بالآخرين، والإحساس والاهتمام بهم، وهي هنا قيَم نبيلة ومأساوية، تذكِّرهم بهموم ومشكلات الآخرين، ومجموعُ هذه القيم يمهِّد ويؤدي إلى القيمة الأخيرة، وهي الأهم في نظره، وهي هدف النص:
"وأنتَ تفكِّر بالآخرين البعيدينَ، فكِّرْ بنفسكَ [قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ]".
فالأمر المفاجئ أنه - بعد سلسلة من الإقناعات - قام بعكس الأمر وكسر التشابه في النهاية، والتفَّ وأبدَع، بهدف صنع التوازن، وجعل القارئَ جزءًا من المأساة، ودفعه إلى مواجهة نفسِه بهذه الصدمة الشعرية اللطيفة: "فكِّر بنفسك"، لينتبه القارئ إلى ما غفل عنه، ويقول مخاطبًا نفسه: أين أنت من نفسك؟ ولماذا رحلتَ بعيدًا عنها؟ وأين أنت.. ذاك الذي من زمان؟ ولينتقلَ من التفكير الإيجابي بالآخرين إلى التأمل في نفسه وذاته، والتفكير الإيجابي بها، ويكتشفَ أنه - بشكلٍ أو بآخر - واحدٌ من أولئك الذين كان يفكر بهم ويظن أنهم مغايرون له، ممن ذُكروا في هذا النص أو لم يُذكروا فيه، ثم ينتزعُه الشاعر من بينهم لكي يصل به إلى القيَم المشرقة في سواد اليأس وظلمة الحياة، وهي قيم الأمل والبذل والعطاء وتمني التغيير إلى الأفضل: "قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ"، وسيتقبلُ القارئ هذا الأمر/النُّصح، ويستجيب له، ويقتنعُ به بصورته التي تعمَّد الشاعر أن تكون بسيطةً مباشرة، لأنه جاء بعد تمهيدٍ شعري مطوَّل له، ولأنه عبارة متعارَفة وواضحة، ولأن هذا النوع من الإقناع يتم طرحه بهذه الطريقة، وبطبيعة الحال، لن تثمر الأُمنيات إلا بالعمل الجاد لتحقيقها وتحويلها إلى واقعٍ ملموس، يكون القارئُ فيه تلك الشمعة التي نبذت السلبيةَ والانعزال واللَّوم المستمر، وأضاءت نفسها وما حولها، فنفعت نفسَها وأسعدت غيرَها.
فربما كانت تقنيةُ استخدام هذه المهارة، واستعارتها من علوم النفس، وتطويرها شعريًّا، سببًا في "اقتناع" الجماهير بهذا النص "الملتوني" النفسي والتنموي الهادئ؛ مما أدى إلى انتشاره بينها على نطاقٍ واسع.
وتتلاقى هذه التقنية الكلامية في القصيدة مع تقنياتٍ أخرى، كاستخدام أفعال القول، وشيءٍ من الدراما المَشهدية، ولمسةٍ من المونولوج الداخلي السردي، وذكر اليوميات، وطريقة تنظيم الأسطر لتحسين تجربة القراءة، والتكرار لتأكيد الأفكار، والدمج بين الأدب وعلم النفس، واستخدام [المعقوفتين] للدَّلالة على المفارقة وعلى ما أضافه الشاعر إلى هذه المهارة، ولعل أهم تقنية بعد التقنية الأساسية في النص هي الأسلوب الذي مزج الشاعر فيه بين نوع جديد ومطوَّر من المباشَرية أو الوضوح الشعري وبين الإيحاء اللغوي النفسي، ليتشكل بذلك "إيحاءٌ شعري" من نوع خاص، فهو نص واضح ظاهريًّا، ومشغول بعناية في عمقه الفني، وليس نصًّا خَطابيًّا تقدَّم فيه القيَم بأسلوب تقريري، هذا إلى جانب: الفكرة اللغوية واللسانية للنص، والفكرة الشعرية والإنسانية المبتكَرة، واستخدام طريقة خطاب جديدة في الشعر.
إذًا، ما يزال هناك الكثير الذي ينتظر الإضافة إلى شعر التفعيلة، وفي هذا النموذج دعوةٌ للشعراء إلى المزيد من استعارة واستجلاب التقنيات والمهارات الإبداعية من مختلِف العلوم والفنون، ومزجها بنصوصهم بعد معرفة وظائفها والطرق السليمة لاستخدامها، وإعادة صياغتها بطرقٍ شعرية حديثة؛ لكي تتحول إلى أدواتٍ تفتح آفاقًا جديدة للتجريب والتجديد، وتُضيء دروبًا لم تُكتشف بعد في مسيرة شعر التفعيلة.
ــــــــــــ
([1]) للمزيد من المعلومات عن هذه اللغة، يمكن الرجوع إلى محاضرة "الإقناع بالإيحاء" للدكتور مُريد الكُلَّاب، وقد استعنت في هذا المقال بأفكار علمية من مذكرة له.
(حقوق الملكية الفكرية لهذه المادة محفوظة للمؤلف)