خطبة: كان خلقه القرآن

خطبة: كان خلقه القرآن

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، ﷺ أما بعد :
أيها الكرماء الأجلاء عباد الله. لا ريب أن القرآن الكريم كتابُ هدايةٍ للأمة قاطبة في جميع مناشطها ومجالاتها، ولكل الأشخاص على اختلاف درجاتهم وأثرهم في مجتمعاتهم، وما من شئٍ في الدنيا والآخرة إلا وقد بَيَّنَ القرآن سبل الرشاد والهداية فيه، قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة ]، وقال تعالى:﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء ]
وإن المتأمل في حديث القرآن العظيم عن النبي العظيم محمد ﷺ يجد آيات حافلة بالثناء عليه، وتعظيم شأنه وإجلال قدره، وحثِّ الناس على اقتفاء أثره.. آيات عظيمات، الواحدة منها كافية في تعظيم هذا النبي الكريم، وحثِّ الناس على الاقتداء به ﷺ فيتحدث القرآن عن عظمة أخلاق هذا النبي الكريم، وما جبله الله عليه من الشمائل الكريمة.كما في قوله -سبحانه-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم ]
وقد أكَّد الله -جل وعلا- هذه المدحة في هذه الآية الكريمة بمؤكدَّين؛ حيث قال: (إِنَّ)، وأكده باللام (لَعَلَى خُلُقٍ) ولَما سئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله ﷺ- قالت: “كان خلقه القرآن” (رواه مسلم). وفي رواية أنها قالت أما تقرأ قول الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال بلى قالت كان خلقه القرآن، وفي رواية أما تقرأ قول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إلى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) قال بلى قالت «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» بمعني أن النبي- كان قرآنيا في حياته كلها. كيف كان قرآنيا في حياته كلها؟ هذا ما سنتعرف عليه في خطبتنا اليوم .
أيها المسلمون: كيف كان النبي ﷺ قرآنيا في حياته كلها؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في أن القرآن كلُّه تجسَّدَ سُلُوكاً وجهاداً، عبادةً وقيادةً، تشريعاً ومعاملةً وسياسةً، في مسلك النبيِّ الخاتم حتي صار خلقه سجيةً له بحسب ما تنزل به القرآن العظيم؛ فهو لا يجاوزه ولا يتعداه، ولا ينقص عما أمره الله به.ومعنى ذلك : أن حياة النبي ﷺ في آدابه وفي معاملاته وفي جميع شؤونه ترجمةٌ واقعية لتوجيهات القرآن وتطبيقٌ تام لهدايات القرآن ، فما من خُلق ولا أدب اشتمل عليه القرآن حثاً عليه وترغيباً فيه إلا جاء به نبينا ﷺ على التمام والكمال ، وليس هناك خُلقٌ ذميم حذَّر منه القرآن إلا وكان ﷺ أبعد الناس عنه.
فحين دعا القرآن الكريم إلي خلق الجود والسخاء فقال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد ]
♦ فيترجم النبي ﷺ ذلك الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة؛ فكان رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لا يرد سائلاً وهو واجد ما يعطيه، فقد سأله رجل حلةً كان يلبسها، فدخل بيته فخلعها ثم خرج بها في يده وأعطاه إياها.
♦ روى البخاري عن سهل رضي الله عنه: أن امرأةً جاءت النبي ﷺ ببُردة منسوجة فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشَّملة، قال: نعم، قالت:نسجتُها بيدي، فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان، فقال: اكسنيها؛ ما أحسنها! قال القوم: ما أحسنتَ! لبِسها النبيُّ ﷺ محتاجًا إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لا يرد، قال: إني والله ما سألته لألبسه، إنما سألته لتكون كفَني، قال سهل: فكانت كفَنَه)
♦ وحملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها. وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله.
♦ وتصور ذلك المشهد العظيم الذي يدل على عظم العطاء من إمام الأصفياء ﷺ فعن موسى بن أنس عن أبيه قال: ((ما سُئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة))[ رواه مسلم ].
♦ وأخرج الشيخان في صحيحيهما أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من شهر رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله ﷺ حينئذٍ أجود بالخير من الريح الـمرسلة))
وحين يدعو القرآن الكريم إلي خلق الوفاء بالعهد كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء ]، وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة ]
♦ تجد هذا الخلق قد تجسد في حياة رسول الله ﷺ فمن وفاء النبي ﷺ لأبي بكر الصديق أنه لم ينسَ ما قدمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لنصرته ولنصرة الإسلام؛ فعن عليٍّ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: ((ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر))[صحيح الجامع ]، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ خطب الناس فقال: ((إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر))[البخاري ومسلم ].
♦ ولم ينس نبع الوفاء ﷺ مواقف عمه أبي طالب الذي واساه وربَّاه، ودافع عنه حتى آخر رمق في حياته، فشفع له عند الله تعالى أن يخفِّف عنه العذاب؛ عن العباس، قال للنبيِّ ﷺ : "ما أغنَيتَ عَن عَمِّكَ، فإنَّه كان يَحوطُكَ ويَغضَبُ لك؟ قال: ((هو في ضَحْضاحٍ مِن نارٍ، ولولا أنا لكان في الدَّركِ الأسفَلِ مِن النارِ)) [البخاري].
♦ ولم ينس نبع الوفاء ﷺ خديجة فعن عائشة قالت : كان النبي إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت فغرت يوما فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيرا منها قال ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء " رواه أحمد
وحين يدعوا القرآن الكريم إلي خلق التواضع. في غير ما آية منه، وجعله من صفات عباد الرحمن؛ فقال الله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان ]، وقال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء ]
♦فيترجم النبي هذا الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة؛ فكان رَسُولِ الله ﷺ متواضعاً.
♦فمن تواضعه ﷺ أنه كان يأتي ضعفاء المسلمين يزورهم يعود مرضاهم يشهد جنائزهم يتعهد حاضرهم ويسأل عمن غاب منهم ..وكان يتفقدهم حتى في الغزوات والمعارك؛ فلما وصل تبوك سأل : أين كعب بن مالك ؟ وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي لكل حاجته ففي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء قالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقام يكنيها ويكرمها ويشفق عليها يقول : ( يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ) فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها.
♦ ولكمال تواضعه ﷺ يتحدث عن رعيه الغنم على أجر زهيد كما روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))[البخاري ]، والقراريط: مفردها قيراط، وهو جزء من أجزاء الدينار.
♦ولعظم تواضعه ﷺ نهى عن إطرائه ورفعه فوق منزلته ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )
♦تواضع في بيته فكان في خدمة أهله وهو قادر على أن يستعين بالخدم لخدمته ...ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها: ((هل كان النبي ﷺ يعمل في بيته؟ قالت: نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته))[ مسلم].
وحين دعا القرآن الكريم إلي خلق العدل .فقال تعالى في محكم آياته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء ]. فيترجم النبي هذا الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة؛ فكان رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عادلا. ولعلَّ من أشهر مواقف النبي ﷺ التي ظهر فيها عدله وقوَّته في الحقِّ، ما روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- بقولها: إن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقالوا: ومن يكلِّم فيها رسول الله؟ فقالوا: ومَنْ يجترئ عليه إلاَّ أسامة بن زيد حِبّ رسول الله ﷺ فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله : "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!". ثم قام فاختطب، ثم قال: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[البخاري ].
♦ ومن داخل بيت النبوّة تبرز صورٌ أخرى للعدالة النبوية ، خصوصاً مع وجود الخلاف الطبيعي والغيرة المعروفة بين الضرائر ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " أهدت بعض أزواج النبي- ﷺ - إليه طعاما في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : ( طعام بطعام ، وإناء بإناء) رواه الترمذي ، وأصله في البخاري .
♦ ومن صور عدله ﷺ بين زوجاته حينما قام بتقسيم الأيّام بينهنّ ، وكان يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب ) رواه أبو داوود ، كذلك كان ﷺ إذا عقد العزم على السفر والمسير اختار من تذهب معه بالقرعة ، كما تروي ذلك عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله - ﷺ - إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها " متفق عليه ، يقول الإمام المناوي معلّقاً : "( أقرع بين نسائه ) تطييبا لنفوسهن ،وحذرا من الترجيح بلا مرجّح عملاً بالعدل"
وحين يدعوا القرآن الكريم إلي خلق العفو كما في قوله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [ الأعراف ]. وقال تعالى: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾[الحجر ] فيترجم النبي هذا الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة.
♦ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه برد نجراني (نوع من اللباس) غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ﷺ وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء!) (رواه البخاري وأحمد).
♦ وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله ﷺ إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله ﷺ : مَه مَه، قال: قال رسول الله ﷺ (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله ﷺ دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن) قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. رواه مسلم
وحين يدعوا القرآن إلي الشجاعة والنجدة والثبات؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الأنفال ]، والذي يتأمل سيرة النبي ﷺ العطرة يجد أنه حاز قصب السبق في ميدان الشجاعة والنجدة والثبات أمام الأعداء.
♦ فعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان النبي أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلةً، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي ﷺ وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عُريٍ، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ثم قال: وجدناه بحرًا، أو قال: إنه لبحر))[البخاري ].اقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله وكفي وصلاة وسلاما علي عباده الذين اصطفي وبعد .أيها المسلمون. ما زلنا مع رسول الله وكيف كان ﷺ قرآنيا في حياته كلها. كيف كان قرآنيا في حياته كلها؟
فحين يدعوا القرآن الكريم إلي أداء الأمانة، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء ]،
♦ فيترجم النبي هذا الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة؛ فكان رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أشهر من اتصف بالأمانة في كل أمور حياته، قبل البعثة وبعدها. أما أمانته قبل البعثة صلى الله عليه وسلم، فقد عُرف بين قومه قبل بعثته بـ"الأمين" ولُقِّب به، فها هي القبائل من قريش لما بنت الكعبة حتى بلغ البنيان موضع الركن (الحجر الأسود) اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون القبيلة الأخرى حتى تخالفوا وأعدوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالٍ أو خمسًا، ثم تشاوروا في الأمر، فأشار أحدهم بأن يكون أول من يدخل من باب المسجد هو الذي يقضي بين القبائل في هذا الأمر، ففعلوا، فكان أول داخل عليهم رسول الله ﷺ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، قال ﷺ ((هلم إليَّ ثوبًا، فأُتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنى عليه))[ سيرة ابن هشام].
وحين يدعوا القرآن الكريم إلي خلق الصبر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران ] فيترجم النبي هذا الخلق إلى صور حية متحركة محسوسة ملموسة فتراه خير من صبر وتحمل
♦ يقول عبد الله بن عمر: "بينا النبي يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ]" (صحيح البخاري).
♦ ويقول عبد الله بن مسعود : "بينما رسولُ اللهِ ﷺ يصلي عند البيتِ، وأبو جهلٍ وأصحابٌ له جلوسٌ، وقد نُحِرَتْ جزورٌ بالأمسِ، فقال أبو جهلٍ: أيكم يقوم إلى سَلا جزورِ بني فلانٍ فيأخذه، فيضعه في كَتِفَي محمدٍ إذا سجد؟ فانبعث أشقى القومِ فأخذه، فلما سجد النبيُّ وضعَه بين كتفَيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضُهم يميلُ على بعضٍ، وأنا قائمٌ أنظر، لو كانت لي منَعَةٌ طرحتُه عن ظهرِ رسولِ اللهِ، والنبيُّ ساجدٌ ما يرفع رأسَه، حتى انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمةَ فجاءت، وهي جُويريةٌ فطرحتْه عنه.." (صحيح مسلم). يقول ﷺ «لقد أُوذيتُ في اللهِ وما يُؤذَى أحَدٌ، وأُخِفتُ في اللهِ وما يخافُ أَحَدٌ، ولقد أتَتْ عليَّ ثلاثون من بين يومٍ و ليلةٍ، وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكلُه ذو كَبِدٍ إلا شيءٌ يُواريه إبِطُ بلالٍ» (صحيح الجامع )
هذا هو رسول الله وهذه جملة عامة وعابرة وهذا قليل من كثير فتأملوا في كتاب ربكم وتدبَّروه، واقتفوا هدي نبيكم واسلكوه؛ ففي ذلك فوز الدنيا وفلاح الآخرة والحياة الطيبة المطمئنة. وإنَّ الناظرَ فيما تضمنته آيات الكتاب العزيز من الثناء على النبي الكريم وعلى أخلاقه وشمائله، وما كان من هديه ومسلكه يوجب على المكلفين جميعًا أن يقتدوا بهذا النبي الكريم، وأن يقتفوا هديه؛ فذلك الفلاح والفوز؛ كما قال رب العزة -سبحانه-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور ] وحثَّ ربنا -جل وعلا- على الاقتفاء والاهتداء بهدي النبي الكريم؛ فقال -عز من قائل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب ]؛ فليس أحد من الخلق أحق أن يُقتدى به، وأن يتشرف الإنسان بسلوك مسلكه من رسول الله.ولقد كانت الأسوة بنبينا محمد ﷺ مثالاً يحتذى، ونبراسًا يقتفى لاسيما في مجال الأخلاق، وما ضعفت الأمة وجانبت طريق الصواب وبعدت إلا بعد أن ضيعت أخلاق الإسلام التي جاء بها المصطفى ﷺ - يقول شوقي:


بنيت لهم من الأخلاق ركنًا *** فخانوا الركن فانهدم اضطرابا
وكـان جنـابهم فيها مهيبًا *** وللأخـلاق أجدر أن تهابَا


اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) آمين.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على البشير النذير والسراج المنير صاحب الخلق الرفيع والأدب النبيل محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-. واقم الصلاة.

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا