خطبة: الصدق في حياة الصحابة
الحمد لله الذي جعل في سِيَر الصالحين عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، وجعل في الصادقين منهم أسوة وقدوة للمقتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد أيها الكرماء الأجلاء عباد الله:
الصدق من أشرف مكارم الأخلاق، وهو منـزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران يقول الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة ]. وَقالَ تَعَالَى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد]. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وعن أبي سفيانَ صَخرِ بنِ حربٍ رضي الله عنه في حديثه الطويلِ في قصةِ هِرَقْلَ، قَالَ هِرقلُ: فَمَاذَا يَأَمُرُكُمْ؟- يعني: النَّبيّ قَالَ أبو سفيانَ: قُلْتُ: يقولُ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحدَهُ لا تُشْرِكوُا بِهِ شَيئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَلاةِ، وَالصِّدْقِ، والعَفَافِ، وَالصِّلَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
أيها المسلمون: والصدق ملازم للمؤمن في كل أحواله في كل تصرفاته كثيرها وقليلها، فلم يقتصر الصدق علي صدق اللسان فحسب بل ان الصدق أعم وأشمل فالصدق كما قال عبد الواحد بن زيد: "الصدق الوفاء لله بالعمل" • ويقول ابن القيم رحمه الله كما في "مدارج السالكين "والصدق ثلاثة: قول، وعمل، وحال: فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال، كاستواء السنبلة على ساقها. والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد. والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقتيه، كما فعل أبو بكر الصديق).
أيها المسلمون :
وإن المتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، وهذه صُوَر مُشرِقة مِن حَيَاةِ الصَّحابَةِ في الصِّدقِ؛ نوجه الجميع للنظر فيها: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام ] فقدْ جَاءوا للهِ ولرسولِهِ صَادقينَ، لَمْ يَعرِفِ التَّاريخُ لِصِدقِهِم مَثيلاً، كانوا أصدق الناس إيمانًا أصدقهم يقينًا ظهر الصدق عليهم في أحوالهم كلها..
♦ صدقهم مع كتاب الله:
صدقوا في تلقيهم للقرآن، فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألئ الكواكب في صفحات السماء، ملئوا الجوانح بكلام الله؛ فظهر أثر ذلك على الجوارح. رتَّلوا القرآن ترتيلاً ينمُّ عن التأثر بما يَتْلُونَ، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرءون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا: (يا أيها الذين آمنوا) إلا أصغوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع ونزل المسلمون شعباً من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يحرسنا الليلة؟ فقام عباد بن بشر ، وعمار بن ياسر - فقالا: نحن يا رسول الله! ثم خرجا إلى فم الشعب، فقال عباد لـعمار : أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار : بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد. وقام عباد يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات. ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش محمد فوتر قوسه، وتناول سهماً من كنانته، ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولَّى المشرك هارباً، وأمَّا عمار فنظر -ويا للهول! أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به؟ فقال عباد -واسمعوا إلى ما يقول-: [[ كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه؛ لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها ]].
أيها الكرماء الأجلاء عباد الله:
إن الصحابة لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعاً عملياً لا نظير له في تاريخ الأمة، فإذا بك ترى أبا طلحة الأنصاري وهو يسمع قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[آل عمران] فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وذخرها عند الله. ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة ] فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني. شيخ كبير قارب على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وصرت شيخاً كبيراً، فدعنا نغزو عنك، قال: والله! ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازاً لدين الله. فيشاء الله يوم علم صدقه أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفاً، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضاً شديداً يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟! ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته، وهو مسجى بينهم، لم يتغير فيه شيء كالنائم تماماً. وفي وسط البحر بعيداً عن الأهل والوطن نائياً عن العشيرة والسكن دفن أبو طلحة ، وما يضره أن يدفن بعيداً عن الناس ما دام قريباً من الله عز وجل، ماذا يضره أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة.
ويأتي أحدهم رسول الله ذات يوم هلعاً، فزعاً، جزعاً، ترتعد فرائصه، فيقال له: ما بك؟ قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَ ؟ قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو. فمازال صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه حتى قال: {يا ثابت بن قيس ! ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى. يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك}. ثم تتنزل آية الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات ] وكان رجلاً جهوري الصوت، يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفارقه عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { من يأتيني بخبر ثابت}، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد ؟ قال: شر والله! قال: وما ذاك؟ قال: تعلم أني رجل جهوري الصوت، وكثيراً ما يعلو صوتي صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله! ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل النار. فيرجع الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا. قال: ارجع إليه فقل له: {لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت} هذا صدقهم مع كتاب الله.
♦ صدقوا في المحبة :
فهَذا أَبُو بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ". فَأَسْلَمَ. رواه أَحمدُ. نعَم.. أتى بأَبيهِ مَع كِبَرِ سِنِّهِ؛ لأنَّ محبَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتعظِيمِهِ أَكبرُ مِن مَحبَّتِه وتعظِيمِهِ لأَبيهِ؛ وهذِه لا تَدلُّ على شَيء كَدَلالَتِهَا على صِدقِ المحَبَّةِ وقُوةِ الاتِّباعِ. أما خبر سعد بن الربيع - رضي الله عنه - فعجيب ، حيث سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - :(أفي الأحياء سعد أم في الأموات ؟)) فخرج أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - يستطلع الخبر ، فوجده في الرمق الأخير ، فقال سعد : " بل أنا في الأموات ، فأبلِغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله عنَّا خيرًا ، ما جزى نبيـًا عن أمته " ، ثم قال لأبي : " وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف " ، ثم لم يبرح أن مات ، فجاء أبي بن كعب - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((رحمه الله ، نصح لله والرسول حيـًا وميتـًا)) .
♦ صدقوا في التمني:
إن هؤلاء الكرام صدقوا حتي في أمنياتهم فإذا بأحدهم؛ وهو عبادة -رضي الله عنه- يقول للمقوقس : [[ وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرَّده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده وماله، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وماله، وإنما همُّنا ما أمامنا ]]. وفي صحيح السيرة أنَّ عُمير بن أبي وقّاص رُدَّ يومَ بَدر لصغره، فبكى فأجازه النبيّ ، قال سعد أخوه: رأيتُ أخي عُميرًا قبل أن يعرِضَنا رسول الله يومَ بَدر يتوارَى حتى لا يراه رسول الله ، فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخافُ أن يراني رسولُ الله فيستصغِرَني ويردَّني، وأنا أُحِبّ الخروجَ لعلَّ الله أن يرزقني الشهادةَ. صدق في أمنيته فصدقه الله وأعلَى درجاته بالشهادة في سبيله. ويذكر ابنُ حجر رحمه الله في كتابِه الإصابة أن سعد بن خيثمَة استهَم هو وأبوه يومَ بدر، فخرج سهم سعد، فقال له أبوه: يا بنيّ آثرني اليومَ، فقال سعد: يا أبتِ، لو كان غير الجنّة فعلتُ، فخرجَ سَعد إلى بدر وبَقي أبوه، فقُتِل بها سَعد، وقُتِل أبوه خَيثمة بعدَ ذلك يومَ أحُد؛ فنالوا الشهادةَ التي هي أعظمُ مَطلوب. واجتمعوا يوماً من الأيام فقال قائلهم: تمنوا. فقال رجل: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل. وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجواهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. وأما علي -رضي الله عنه- فيتمنى الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف. وأما خالد فيتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، يصبِّح فيها العدو؛ ليجاهد في سبيل الله. وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: [[أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل أبي عبيدة ؛ أستعملهم في طاعة الله]] رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله أيها الأحبة: يتمنى عمر هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم؛ فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال! كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كـأبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة. كم هي حاجة الأمة لأمين كـأبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام. هكذا كانت مطالب الصحابة رضوان الله عليهم وأمانيهم، استحقوا أن يخلِّد الله ذكرهم في كتابه بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظ لهم قدرهم في الأمة على مدى الزمان
♦ صدقوا فاتهموا أنفسهم :
اتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو؛ ركلوا العُجْب والكبر والغرور، فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء في حبور. فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُوبَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، َفأنْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله :(( وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )) [رواه مسلم].
وعمر بن الخطاب يذهب إلي حذيفة فيسأله أسماني رسول الله في المنافقين ؟ فيقول حذيفة لا يا عمر ، ويقال لأحدهم: يا مراءٍ! فيقول: متى عرفت اسمي؟ وآخر في الحج وقد ازدحم الحُجَّاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء. فيقول: ما عرفني إلا أنت. ويؤتى بالثالث ويقف يوم عرفة آخر النهار متذللاً خاضعاً خاشعاً، قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -وهي من ذنوب وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله! ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي ، للهِ دَرُّهُمْ على هذا الصِدْقِ... هَذا هُوَ الصِدْقُ صَدقُوا اللهَ فصدَقَهُم ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب ]. هكذا صدق هؤلاء الأطهار في كل أحوالهم فاستحقوا ان يمتدحهم الله عز وجل ويرضي عنهم رضي الله عنهم ورضوا عنه وامتدحهم رسوله ورضي عنهم فقال خير القرون قرني ثم الذين يلونهم. اقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ الْحَمْدُ الْحَسَنُ وَالثَّناءُ الْجَمِيلُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا... أمَّا بَعْدُ: أيها الكرماء : إنَّ الصدق هو الذي يبعَث على الافتداء بكلِّ غالٍ ورخيص في سبيل رضوان الله جلّ وعلا ومحبّته ونُصرة دينه مهما كانت التضحيةُ ومهما كان الثمن غاليًا. فالصدق هو الذي دفع بطلحةَ أن يقيَ رسول الله بأحد حتى شُلَّت يده رضي الله عنه، والصدق هو الذي دفع بسعدِ بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أن يقاتلَ بين يدَي رسول الله في أُحُد، وكان يناوله النبل ويقول: ((ارمِ يا سعد، فداك أبي وأمي)). والصدقُ هو الذي حدا بأبي طلحة أن يستبسِل في الدّفاع عن رسول الله والمشركون محيطون به وأبو طلحةَ يقول: يا نبيَّ الله، بأبي أنت لا تشرِف إلى القوم أن لا يصيبك منهم سهم، نحري دون نحرك، أي: جعل الله نحري دون نحرك. وهذا الشأنُ هو الذي دَفع بنسيبةَ بنتِ كعب رضي الله عنها بأُحُد أن تذُبَّ عن رسولِ الله بالسيفِ وتُرمَى بالقوس وتُصاب بجراح كثيرة. وهذا الأمر -أي: الصدق هو الذي جعل أبا دُجانةَ يُترِّس بنفسِه دون رسول الله حتى يقَع النبلُ في ظهرِه، وهو منحنٍ على رسول الله حتى كثُر فيه النَّبل. فأينَ المسلمونَ مِن هَذِه المَواقفِ.
أيها الكرماء :
ما أحوجنا إلى الصدق في تعاملنا، ما أحوجنا إلى الصدق في مناهج حياتنا بأن تكون أعمالنا ومنهج حياتنا مسبوغة بتعاليم هذا الدين فننطلق منه لأمورنا كلها على وفق ما شرع الله لنا ورسوله، ما أحوجنا إلى الصدق في توبتنا إذا تبنا إلي الله . ما أحوجنا إلى الصدق في توكلنا على الله واعتمادنا عليه، ما أحوجنا إلى الصدق في استقامتنا ومراقبة أحوالنا، ما أحوجنا إلى الصدق في تطهير بيوتنا عما يخالف شرع الله، ما أحوجنا إلى الصدق في مجالسنا بأن تكون مجالسنا مجالس خير وهدى لا غيبة ولا نميمة ولا بهتانا ولا قيل وقال مما يخرج عن الشرع والدين، ما أحوجنا إلى الصدق في أقوالنا بأن تكون أقوالنا أقوال صادقة بعيدا عن الكذب والافتراء، ما أحوجنا إلى الصدق في تعاملنا مع أبوينا لاسيما عند كبرهما فلنصدق في برهما والإحسان إليهما. ما أحوجنا إلى الصدق في التعامل مع زوجاتنا مع أبناءنا وبناتنا التعامل الصحيح الذي نؤدي به الواجب ونغرس فيهم الفضائل، ما أحوجنا إلى الصدق في حب أوطاننا والدفاع عنها ومنع كل المفسدين والمجرمين والأخذ على أيدي المفسدين والمتربصين بالأمة الدوائر، ما أحوجنا إلى خطيب ذا فهم يبصر الأمة وينشر الخير ويتحدث عن مشاكلها بعيدا عن الغلو والتطرف، ما أحوجنا إلى واعظ وداعي إلى الله يدعوا على علم وبصيرة في دين الله فينشر الخير ويدعوا إلى الخير ، فإذا كان هناك رجال صادقين ينظرون للواقع ويدرسون المشاكل ويقيمون التقييم الصحيح فالأمة إن شاء الله بخير وصلاح، أسأل الله أن يوفقنا جميعًا لنكن من الصادقين في أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير.