خطبة: مقتطفات من حياة الإمام الفقيه
الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
الحمد لله الذي جعل في سِيَر الصالحين عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، وجعل في الصادقين منهم أسوة وقدوة للمقتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد .أيها الكرماء الأجلاء عباد الله:يقول الله تعالى :(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فاطر. وروى أبو داود في سننه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ« إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا » فلله أقوامٌ ساروا بهذا الدين حتى بلغوه، وحملوا لواءَ الشريعة ولم يتركوه، فنالوا العزَّ من ذراه، واشتملهم الهدى إلى مُنتهاه، وكانوا بشرًا كالبشر، يأكلون الطَّعام ويَمشون في الأسواق، وقد عذبت أمانيهم في الخير، حتى صاروا أئمَّة المهتدين، ونبراسًا ومعلمًا وقدوةً في العمل لهذا الدين، وهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، وإمام من أئمة الدين، نصر الله به السنة، وقمع به البدعة. إنه فقيه الملة وناصر السنة وسيد أهل زمانه، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، فهو العالم بالقرآن وعلومه، العالم بالحديث وأصوله، العالم بالفقه وقواعده، العالم باللغة والأدب والشعر وفرائده .العالم بالأنساب وأيام الناس، بل العالم بالطب في زمانه، العابد الزاهد التقي النقي، القرشي ثم المطلبي قال عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد: “كان كالشمس للدنيا: وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض أو هل ترى لهما من خلف“. إنه إمام الدنيا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب ابن عبد مناف، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد نسيب رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم وابن عمه، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب، كان أبيض جسيمًا، طوالًا جميلًا مهيبًا يخضب بالحناء .
أيها المسلمون: وُلد الشافعي سنة مائة وخمسين من الهجرة بمدينة غزة على أصح الأقوال لأهل العلم، نشأ يتيمًا في حجر أمه، ولما بلغ الشافعي سنتين انتقلت به أمه الفقيهة العالمة الحكيمة بعد موت أبيه إلى مكة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وإجلالاً وتكريماً.وفي ظلال الكعبة، وبين ربوع بيت الله الحرام نشأ الإمام الشافعي، وفي سنٍ مبكرة جداً دفعت أم الشافعيِ الشافعيَ إلى شيخ من شيوخ الحرم المكي ليحفظه القرآن الكريم، فحفظ الشافعي القرآن كله في السابعة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى طلب العلم الشرعي على يد أول أستاذ له وهو شيخ الحرم المكي حينذاك، الإمام العلم: مسلم بن خالد الزنجي رحمه الله تعالى.
قال الشَّافعي: "كنت يتيمًا في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أخلفه إذا قام، فلما ختمتُ القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، فأحفظ الحديث، أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث والمسألة، وكانت لنا جرةٌ قديمةٌ، فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة"؛ (حلية الأولياء )
وكان الشافعي رحمه الله شديد المحبة للعلم. قيل له مرة: كيف شهوتك للعلم؟ فأجاب ما معناه: «أسمع من العلم شيئاً جديداً فتودّ أعضائي أن لها أسماعاً تتنعّم به، مثل ما تنعمت به الأذنان. فقيل له: فكيف حرصُك عليه؟ قال: حِرصُ الجموع المنوع (أي البخيل) في بلوغ لذّته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة التي ضاع ولدها ليس لها غيره».
وحفظ الشافعي موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ، ثم رحل إلى الإمام مالك فلما كلمه، أعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، فلازمه وقرأ عليه الموطأ من حفظه، وأخذ علم الحديث عن الإمام مالك، وأخذ عنه الفقه وفتاوى الصحابة وعمل أهل المدينة رضوان الله عليهم جميعاً.ثم رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلاد اليمن لطلب العلم، وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتى انتشر ذكره، وعلا قدره، وظهر فضله على جميع الشيوخ والعلماء وهو الذي ذهب طالباً للعلم حتى قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي حينما عاد من المدينة إلى مكة، قال له: افتِ يا أبا عبد الله، فإنك الآن أهل للفتيا، وهو غلام حدث صغير.
قال أبو ثورٍ: كتب عبدالرحمن بن مهدي إلى الشَّافعي وهو شاب أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، فوضع له كتاب (الرسالة)؛ (سير أعلام النبلاء )
قال يونس بن عبدالأعلى: كان الشَّافعي "يصنع كتابًا من غدوةٍ إلى الظهر من حفظه، من غير أن يكون في يده أصلٌ"؛ (حلية الأولياء )
وكان بارعاً جداً في المناظرة حتى قيل عنه: «لو ناظر الشافعي الشيطان لقطّعه وجدّله». وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: «ما رأيت الشافعي ناظر أحداً إلا رحمتُه. ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننتَ أنه سَبُعٌ يأكلك. وهو الذي علَّم الناس الحجج». ومع ذلك فإنه كان لا يرفع صوته في المناظرة. وكان لا يريد إلا الحقَّ، ولا يريد قَهْرَ الطرفِ الآخر. يقول رحمه الله: «ما ناظرتُ أحداً قطّ إلا أحببتُ أن يوفَّق، أو يُسدْد، أو يُعان، ويكونَ له رعايةٌ من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحداً إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحقَ على لساني أو لسانه وما ناظرتُ أحداً فأحببتُ أن يخطئ وما ناظرتُ أحداً على الغلبة، إنما على النصيحة». أيها المسلمون: يعتبر الإمام الشافعيُّ من أكثر علماء الأمة تأثيراً في الحياة العلمية،يعتبر الشافعي -رحمه الله- أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، وذلك في كتابه الشهير “الرسالة” وقد أجاب فيه على بعض أسئلةٍ بعث إليه بها شيخه عبد الرحمن بن مهدى، فبَعُد صَيْتُه وتكاثر عليه الطلبة، وبورك له في تلاميذه؛ فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ نجباء أفذاذ مثل الشافعي ؛ولقد بارك الله -عز وجل- في مصنَّفات الشافعي، وتسابق العلماء على اقتنائها وتحصيلها واستخراج كنوزها، بل إن إسحاق بن راهويه تزوج أرملة رجل بمرو كانت عنده كتب الشافعي، لم يتزوجها إلا للكتب.
وقد أثنى عليه العلماء ثناءً عظيمًا، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: "ما أحد مس بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في رقبته منة، ولولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وكان الفقه مقفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي".
وقال أيضًا عندما سأله ابنه فقال له: يا أبت أي رجل كان الشافعي؟ سمعتك تكثر الدعاء له، فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض.
وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحوًا من أربعين سنة وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ يَبعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا"[ سنن أبي داود ]، قال: فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية[البداية والنهاية"].
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقلٍ، فصيح نصيح، فإني أكثر الدعاء له، وما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل".
وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي : "للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، من شرف نسبه، وصحة دينه ومعتقده وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه وحفظه الكتاب والسنة، وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف، وجودة الأصحاب والتلامذة، مثل أحمد ابن حنبل في زهده وورعه وإقامته على السنة". عبادة الإمام الشَّافعي :
أيها المسلمون: وعلى الرغم من انشغال الشافعي الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث وإيثاره لطلب العلم على صلاة التطوع والنَّوافل، إلا أنه كان عابداً ربانياً زاهداً مقبلاً على شأنه.
قال حسينٌ الكرابيسي: بتُّ مع الشَّافعي ليلةً، فكان يصلي نحو ثلث الليل، فما رأيته يزيد على خمسين آيةً، فإذا أكثر فمائة آيةٍ، وكان لا يمر بآية رحمةٍ إلا سأل الله، ولا بآية عذابٍ إلا تعوَّذ، وكأنما جُمع له الرجاء والرهبة جميعًا؛ (سير أعلام النبلاء )
قال الربيع بن سليمان: "كان الشَّافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاءٍ؛ الثلث الأول يكتب، والثلث الثاني يصلي، والثلث الثالث ينام"؛ (حلية الأولياء )
قال إبراهيم بن محمَّد: "ما رأيت أحدًا أحسنَ صلاةً من محمَّد بن إدريس الشَّافعي؛ وذلك أنه أخذ من مسلم بن خالدٍ الزنجي، وأخذ مسلمٌ من ابن جريج، وأخذ ابن جريجٍ من عطاءٍ، وأخذ عطاءٌ من عبدالله بن الزبير، وأخذ ابن الزبير من أبي بكرٍ الصديق، وأخذ أبو بكرٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مِن جبريل عليه السلام"؛ (حلية الأولياء).
قال الربيع بن سليمان: "كان محمَّد بن إدريس الشَّافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمةً، ما منها شيءٌ إلا في صلاةٍ"؛ (حلية الأولياء). كرم وجُودُ الإمام الشَّافعي:
أيها الإخوة: أما أكثرُ ما يُميِّز الشافعيَّ فهو سخاؤه وكرمه الشديد، قال عنه أحد معاصريه وهو عمر بن نباتة: “والله، ما رأيت رجلاً قطُّ، أورع، ولا أخشع، ولا أفصح، ولا أسمح، ولا أعلم، ولا أكرم، ولا أجمل ،ولا أنبل، ولا أفضل، من محمد بن إدريس الشافعي“. وله أمثلة ونوادر في ذلك مشهورة منها:
قال إسماعيل بن يحيى المزني: "ما رأيت رجلًا أكرم من الشَّافعي، خرجت معه ليلة عيدٍ من المسجد وأنا أذاكره في مسألةٍ، حتى أتيت باب داره، فأتاه غلامٌ بكيسٍ، فقال: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: خذ هذا الكيس،فأخذه منه وأدخله في كمه، فأتاه رجلٌ من الحلقة، فقال: يا أبا عبدالله، ولدت امرأتي الساعة، ولا شيء عندي، فدفع إليه الكيس، وصعِد وليس معه شيءٌ"؛ (حلية الأولياء )
محمَّد بن عبدالله بن عبدالحكم، قال: "كان الشَّافعي أسخى الناس بما يجده، فكان يمر بنا، فإن وجدني، وإلا قال: قولي لمحمَّد إذا جاء يأتي المنزل؛ فإني لست أتغدى حتى يجيء،فربما جئته، فإذا قعدت معه على الغداء قال: يا جارية، اضربي لنا فالوذجًا، فلا تزال المائدة بين يديه حتى تفرغ منه ويتغدى"؛ (حلية الأولياء )
قال عمرو بن سوادٍ السرجي: "كان الشَّافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام"؛ (حلية الأولياء )
قال الحميدي: "قدم الشَّافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينارٍ في منديلٍ، فضرب خباءه في موضعٍ خارجًا من مكة، فكان الناس يأتونه فيه، فما برح حتى وهبها كلها"؛ (حلية الأولياء ). الدينار: يعادل أربعة جرامات وربعًا من الذهب الخالص.
قال إسماعيل الحميري: "كان محمَّد بن إدريس الشَّافعي لَمَّا أُدخِل على أمير المؤمنين هارون الرشيد، وناظر بشرًا المريسي فقَطَعَه، خلَع هارونُ الرشيد على الشَّافعي، وأمَر له بخمسين ألف درهمٍ، فانصرف إلى البيت وليس معه شيءٌ، قد تصدَّق بجميع ذلك، ووصل به الناس"؛ (حلية الأولياء ) الدرهم: يعادل جرامين وثُمُنًا من الذهب الخالص.
عبدالله بن محمَّد البلوي قال: أمر الرشيد لمحمَّد بن إدريس الشَّافعي بألف دينارٍ، فقبلها، فأمر الرشيد خادمه سراجًا باتباعه، فما زال يفرقها قبضةً قبضةً حتى انتهى إلى خارج الدار، وما معه إلا قبضةٌ واحدةٌ، فدفعها إلى غلامه، وقال: انتفع بها،فأخبر سراجٌ الرشيد بذاك، فقال: "لهذا فرغ همُّه، وقَوِيَ مَتْنُه"؛ (حلية الأولياء)
قال ابن أبي حاتم: حدَّثنا الرَّبيع، قال: تزوَّجتُ، فقالَ لي الشَّافعي رضي الله عنه: كم أصدقتها؟ فقُلت: ثلاثين ديناراً، قال: كم أعطيتها؟، قُلت: ستَّة دنانير، فصَعَدَ داره وأرسل إِليَّ بِصُرَّةٍ فيها أربعة وعشرون ديناراً.
وكان من سخائه أنه يُعطي على الشيء الصغير المال الوفير، فكان ربما يقع سوطه فيُعطي الغلام الذي يُناوله إياه تسعة أو عشرة دنانير، وانقطع شسع نعله فأعطى الرجل الذي أصلحه سبعة دنانير، وكان كثيراً ما يقول: “السَّخاء والكرم، يُغطيان عيوب الدنيا والآخرة، بعد أن لا يلحقهما بدعة“.
روُيَ أن الإمام الشَّافعي لمَّا مرِضَ مرَضَ موته: قال مُروا فلاناً يغسَّلني، فلمَّا توفِّيَ بلغه خبره فحضروا، وقال: ائتوني بتذكرته فأتي بها، فَنَظَرَ فيها، فإذا على الشَّافعي سبعون ألف درهم ديناً، فكتبها على نفسه وقضاها عنه، وقال: هذا غُسلي إيَّاه إنَّما أراد هذا ( تراكمت عليه الديون بفعل كرمه وجوده). هكذا كان الإمام الفقيه لنتعلم ونسير علي دربه فبهداهم اقتده.اقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ الْحَمْدُ الْحَسَنُ وَالثَّناءُ الْجَمِيلُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا... أمَّا بَعْدُ: أيها الكرماء :
قال الذهبي: "لا نُلَام والله على حب هذا الإمام؛ لأنه من رجال الكمال في زمانه". فرحم الله الشافعي، وأين مثله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، وقال الربيع بن سليمان: "لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه"
ومن أقوال الإمام العظيمة: "العلم ما نفع وليس العلم ما حفظ". وقال: "ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة، فأدخلت يدي فتقيأتها؛ لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف العبادة". وقال: "لا يكمل الرجل إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة". وقال: "العاقل من عقله عقله عن كل مذموم". وقال: "من لم تعزه التقوى فلا عز له". وقال: "وما فزعت من الفقر قط، طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد".
وقيل له: ما لك تكثر من إمساك العصا، ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، وقال: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا، وقال: الخير في خمسة: غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، والتقوى، والثقة بالله، وقال: اجتناب المعاصي، وترك ما لا يعنيك ينور القلب، عليك بالخلوة وقلة الأكل، وإياك ومخالطة السفهاء، ومن لا ينصفك.
وقال رحمه الله: "إذا تكلمت فيما لا يعنيك ملكتك الكلمة ولم تملكها، وقال: المروءة أركان أربعة: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك، وقال أيضًا: والتواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة".
وقال أيضًا: إذا خفت على عملك العجب، فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله.
آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة. وقال: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله.
وكان يقول: "قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وطلب العلم أفضل من صلاة النافلة". وكان يقول: "من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه". وقال: "وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا العِلْمَ، وَلَم يُنسَبْ إِلَيَّ مِنهُ شَيءٌ، فَأُؤجَرُ عَلَيهِ، وَلَا يَحمَدُونِي".
وقال أيضًا: إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذهَبِي، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَولِي الحَائِطَ. وهذه الأقوال السابقة تدل على كمال عقله وفصاحته، فقد كانوا يعدونه من عقلاء الرجال.
وفي السنة الرابعة بعد المائتين، أي: في الرابعة والخمسين من عمره نام الشافعي على فراش الموت بعد ما اشتد به المرض، ودخل عليه تلميذه المزني ليقول له: كيف أصبحت؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ووالله لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، وبكى الشافعي -رضي الله عنه-، ونظر إلى السماء وناجى ربه جل وعلا وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ما زلت ذا عفوٍ عن العبد لم تزل *** تجود وتعفو منةً وتكرما
ولقي الشافعي ربه -جل وعلا- بعد هذه المناجاة - فرحم الله الشافعي رحمة واسعة، وجزاه الله عنا وعن المسلمين والإسلام خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.
وأقم الصلاة.