خطبة: استثمر والديك

خطبة: استثمر والديك

معنى استثمر والديك:

دائماً ما تعني كلمة الاستثمار أن تجني أرباحاً من مالك الذي تدخله في التجارات، لكن الاستثمار اليوم لشئ آخر ولمعنى آخر، قد يستغربه البعض ألا وهو استثمر والديك!

الاستثمار في الوالدين: يعني أن تصرف عليهما من الوقت والمال والمحبة وحسن الخلق أضعاف أضعاف ما تصرفه على غيرهما من أهل وولد وصاحب وقريب وزميل.

ويعني هذا الاستثمار أيضا أن تغتنم لحظات عمرهما كما تغتنم أعظم الفرص التجارية التي تعرض عليك وينافسك عليها غيرك وتريد أن تسبقه للفوز بها.

ويعني هذا الاستثمار أن تصبر على ما لا يعجبك منهما كصبر من يعمل مع تاجر يعطيه راتبا لا يجده عند غيره أبداً ولكنه يعامله باستعلاء عليه.

ويعني هذا الاستثمار أن تحب ما يحبان وتثني عليهما كثناء طفل متعلق بأبيه على كل ما يُنسب لأبيه.

ويعني هذا الاستثمار أيضا أن يكون كل فعل تفعله لهما إنما تريد به وجه الله.

ومن رحمة الله أن هذا الاستثمار لا يتوقف على حياة الوالدين؛ بل تستطيع مواصلة هذا الاستثمار حتى بعد وفاتهما.

الاستثمار بالمال للوالدين:

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: أتى أعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي؛ يعني إن أبي يريد أن يأخذ مالي كله، فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال له -عليه الصلاة والسلام -: ((أنت ومالك لوالدك)) وفي رواية: ((أنت ومالك لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئًا)).

وعن عائشة -رضي الله عنها -عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: ((إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم)).

استثمار الوالدين بعد موتهما

عباد الله: قد يقول قائل: إن أبواي قد ماتا؛ فكيف أبرهما بعد موتهما؟! وهل هناك بر للوالدين بعد موتهما؟! أقول: تعال معي استمع إلى حبيبك-صلى الله عليه وسلم-؛ فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ ": نَعَمْ، الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِيفَاءٌ بِعُهُودِهِمَا مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا". (أبو داود وابن ماجة).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ؛ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ؛ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ". (مسلم).

" قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الجواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها؛ فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف.

وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وفيه دليل لصحة أصل الوقف، وعظيم ثوابه، وبيان فضيلة العلم، والحث على الاستكثار منه. والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع. وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة ". (شرح النووي).

ومن خلال الحديثين السابقين نجد أن بر الوالدين بعد موتهما يكون بعدة أمور:

منها: الدعاء لهما: وهو المراد بقوله: (الصلاة عليهما). أي: الدعاء لهما. فقد يدعو الابن لأبيه أو أمه دعوة خالصة يغفر الله لهما بسبب هذه الدعوة؛ وإليكم هذه القصة الواقعية التي تؤيد هذا الكلام:

 فقد روى أن رجلاً وافته المنية وبعد دفنه رأى أحد أهله رؤيا في منامه وهي أنه أتاه مناد يخبره أن صاحبكم الذي دفنتموه غفر الله له بسبب دعاء فلان ابن فلان؛ وبعدما استيقظ من نومه سارع إلى أحد المشايخ ليسأله عن رؤياه؟!.

فأجابه الشيخ: عليك أن تبحث من بين الذين حضروا الجنازة عن ذلك الذي ذكر اسمه وتسأله بم دعا ؟!!

وبعد أن بحث عنه ووجده سأله ما هو الدعاء الذي دعا به للميت؟!. فقال: أنا لم أدع غير دعاء واحد حتى دخول الميت إلى قبره. قال له: وما هو الدعاء؟!. قال: قلت: اللهم أنت تعلم أنه لو كان ضيفي لأكرمته؛ والآن هو ضيفك فأكرمه يا أكرم الأكرمين !!

ومنها: الاستغفار لهما: فبكثرة الاستغفار لهما يرفعهما الله درجات في الجنة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ.". (أحمد والطبراني وابن ماجة).

ومنها: إنفاذ عهدهما: أي إذا كانا أوصى أحدهما أو كلاهما بشيء تنفذ وصيتهما وعهدهما.

ومنها إكرام صديقهما وصلة رحمهما: فإذا كنت تريد أن تكون باراً بأبيك وأمك فانظر من كان يصاحب فعليك بوده وصلة قرابته وإكرام أصدقائه والعطف عليهم؛ فهذا من البر لأبويك بعد موتهما؛ وهذا حبيبكم – صلى الله عليه وسلم – كان باراً ووفياً لخديجة في حياتها وبعد موتها؛ فعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ، يَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلانَةٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةَ خَدِيجَةَ، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَيْتِ فُلانَةٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ ". (البخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم وصححه).

فالإسلام حث أتباعه على الإحسان إلى أصدقاء الوالدين وبرهم وودهم ولا سيما إذا كانوا في سن الشيخوخة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ؛ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ؛ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ " .( مسلم ).

وبلغ الأمر ببعض السلف أنه كان يسافر ليصل صديق أبيه. فقد روى أحمد في مسنده عن يُوسُف بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي مَا أَعْمَدَكَ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ أَوْ مَا جَاءَ بِكَ؟! قَالَ قُلْتُ: لا إِلا صِلَةُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ وَالِدِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ!!.

من قصص الاستثمار للوالدين:

من عجيب البر، قال الله تعالى :(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)). فالله عز وجل قال: قد أجيبت دعوتكما، لم يقل: فأجبت دعوتكما، تأملوا كم تأخرت الإجابة عن الدعاء.

قال مقاتل: فمكث موسى بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وهكذا روى الضَّحَّاك: أن الإجابة ظهرت بعد أربعين سنة. وقال بعضهم: بعد أربعين يوماً([1]).

وقال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذه الآية أربعين سنة([2]).

من الأسباب في التأخير: قد يكون التأخير استدراجاً له من الله كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) {الأعراف:182-183}.

والسبب الثاني: أن فرعون كانت له أم وكان باراً، فكان تدعوا فلما ماتت استجاب الله عز وجل دعاء نبيه موسى -عليه السلام-.

قصة أويس القرني: روى مسلم، عن أسير بن عمرو أو هو أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن -متطوعة الجهاد الذين كانوا يأتون مددًا لجيوش الفتح الإسلامي من مختلف الجهات-سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن، قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم، قال: لك والدة، قال: نعم، قال عمر سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) فاستغفر لي يا أويس، فاستغفر أويس لعمر، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها، قال: أكون في غبراء الناس- أكون في عامتهم وفقرائهم- أحب إلي؛ يعني أكون واحد عادي من الناس.

فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم؛ أي من أشراف اليمن فوافق عمر، فسأله عمر عن أويس، فقال: تركته رث البيت -هو الخَلِق البالي من كل شيء- قليل المتاع؛ يعني زاهد في الدنيا وراض ٍ بما أعطاه الله، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) فأتى الرجل أويسًا، فقال: استغفر لي، قال أويس للرجل: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح فاستغفر لي، لقيت عمر، قال: نعم فاستغفر له، فاستغفر له ففطن له الناس؛ يعني الناس عرفوا قدر أويس فانطلق على وجهه خرج من بيته وهاجر المكان والبلدة التي يعيش فيها.

قصة روتها لي أمي، وذلك أن رجلاً كان باراً بأمه في قريتنا، وكانت تدعوا له -على حد تعبيرها-: يارب يابني ما يسكن جسمك مرض طول ما أنا حية، يقول: والله يوم أن ماتت ودفنتها أصابتني الحمى الشديدة، فقال: يا ليت أمي كانت دعوتها حية وميتة، سبحان الله إنه البر!!

 ـــــ

([1]) تفسير السمرقندي 2/129.

([2]) الهداية إلى بلوغ النهاية 5/3318.

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا