خطبة: أوقفوا عقارب الساعة

خطبة: أوقفوا عقارب الساعة
يوسف العوض

الخطبة الأولى:

الْحَمّدُ لِلَّهِ الَّذِي جعلَ حُبَّه أشرفَ المكاسِب ، وأعظمَ المواهِب ، أَحْمَدُه – سُبْحَانَه – وأشكرُه عَلَى نِعَمةِ المطاعِم والمشارِب ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ المُنزَّهُ عَن النقائِص والمعايِب ، خلقَ الإنسانَ مِن ماءٍ دافِقٍ يخرجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلب والترائِب ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلَى الهُدى وَالنُّور وَطَهَارَةِ النفسِ مِن المثالِب ، صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . أَمَّا بَعْدُ :

فأُوصِيكم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ ؛ فَهِي سبيلُ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ 

أما بعد .. أَيُّهَا الْمُسْلِمُون : تَأَمَّلوا بَعْدَ قِسْطٍ مِنْ الْعُمُرِ وَحَاوَلوا إيقَافَ عَقَارِبِ السَّاعَةِ – وَإِن كنتَم لَا تستطيعون- وَتَصْفَحوا كِتَابَ الْحَيَاةِ وَأَحْوَالَ النَّاسِ فِيهَا ، فسَيَهُولنَّكم مَا تَرَون !! فھﺫا فِي رَغَدٍ مِنْ الْعَيْشِ وَنِعَمُ اللَّهِ بَادِيَةٌ عَلَيْه ، وَهُو يتوجَّسُ مِنْ الْغَدِ خِيفَةً ، يَحْذَرُ أَنْ يَسْرِقَ مِنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ ابتسامتَه العَابِرَةَ ، فَهُوَ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ ، وﺫاك غارِقٌ فِي أَوْحَالِ الْهُمُومِ ، يَكَاد يَقْتُلُه الْغَمُّ وَالضَّجَرُ ، يَلْعَنُ الْيَوْمَ اﻠﺫي وُلِدَ فِيه ، وَآخَرُ يُصَارِعُ الْقَدَرَ ، ويُحاولُ أَن يَرْسُمَ لَوْحَةَ حَيَاتِه بِالْأَلْوَانِ الَّتِي يَهْوَاهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ فَيَنْكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ . فَلَا الْأَوَّل سَعِيدٌ بِما قُدِّمَ لَهُ وَلَا الثَّانِي يَنْعَمُ بِحَيَاتِه ، وَالْكُلُّ فِي جَحِيمٍ ، إلَّا مِنْ أَكْرَمَهُ الْكَرِيمُ فَهُو يُشَاهَدُ مِنْ بَعِيدٍ وَيَسْعَى للحَمّدِ والشُكرِ والصَبرِ والظَفَرِ بِكُلِّ مَا أَتَاهُ السَّمِيعُ الْمُجِيبُ . أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : جُنَّةٌ الدُّنْيَا مِفْتَاحُهَا الْجَوَابُ السَّلِيمُ عَلَى أَسْئِلَةٍ ثَلَاثَةٍ فَمَنْ أَحْسَنَ الْجَوَابَ ، وَاِتَّخَذَه شِعَارًا وَمَبْدَأَ حَيَاةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَو حَادَ عَنْ الْجَوَابِ الصَّحِيحِ تَاه وَشَقِيّ بِحَيَاتِه أَيَّمَا شَقَاء . الْأَسْئِلَةُ الثَّلاثَةُ هِيَ .. مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ ؟ وَمَا وَظِيفَتَي فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ؟ وَمَا هي غَايَتي ؟ .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وﺫروةُ سَنَامِ ھﺫا كُلِّه الْيَقِينُ الْمُطْلَقُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، فَهُو مِشْعَلُ النّورِ الّذِي يُنِيرُ الطَّرِيقَ ، وَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ مُتَحَلِّيًا بِالصَّبْر الْمُتَوَاصِل ، فَمَن أَيْقَن بِالْآخِرَة وجزائِها فَسَيَرْضَى لَا مَحَالَةَ بِمَا قَسَمَ لَهُ ، وسيهنأ بِحالِه مَهْمَا كَانَ قَدْرَهُ ، خَاصَّةً وَأَنَّ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ تَشْمَلُه قَال تعالى׃ « أَلَم ﺫلك الْكِتَاب لاريب فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ اﻠﺫين يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ واﻠﺫين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ . » ، فالْفَلَاح يَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَيْث يَتَنَعَّم فِي جَنَّةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي وَصَفَهَا الْحَبِيبُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله׃ « عَجَبًا لِأَمْر الْمُؤْمِنِ أَنْ أَمَرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، أَنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شُكَر ، فَكَان خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَر ، فَكَان خَيْرًا لَهُ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَالْمُؤْمِن مُوقِنٌ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، وَكُلَّمَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ الْآخِرَةَ وَلَمْ يَرْبَطْ حَيَاتَهُ بِمَآلِهِ ﺇلا وَبَدَأ الضَّنَّك يَتَسَرَّب إلَيّ نَفْسِه رُوَيْدًا رُوَيْدًا ، لِأَنّ الرُّكُونَ إلَى الدُّنْيَا ومفاتنِها يَسْلِبُ الِاطْمِئْنَانَ والهناءَ ، وَمَنْ سَعَى إلَى السَّعَادَةِ فِيهَا فَإِنَّمَا يَلْهَثُ وَرَاءَ السَّرَاب ، وتتلاعبُ بِه الْمَلَذَّات ، فَاللَّذَّةُ إذَا كَانَتْ هَدَفًا أَصْبَحْت مَبْدَأ أَلَم ، لِأَنَّهَا فِي الْحَلَالِ تُسَبَّب الْمَلَل ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ تَعَقُّبُهَا الْكَآبَةُ ، لِذَا نَجِدُ مَآلَ مِنْ بَالِغَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَاتِّبَاعِ الْمَلَذَّاتِ الانتحارَ ! كَتَب مُهَنْدِسٌ يابانِي مُصَمِّمُ ثَانِي أَكْبَرَ جِسْرٍ فِي الْعَالَمِ وَرَقَةً قَبْل انْتِحارِه قَال فيها׃ « ﺫقتُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ طَعْمًا ، وَأَرَدْتُ أَنْ أﺫوق طَعْمَ الْمَوْت » وَلَوْ أَنَّهُ ﺫاقَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ لَمَا فَكَّرَ فِي الانتحارِ ولاغتنمَ حَيَاتَه أَيَّمَا اِغْتِنَام ، وَلَمَّا زحزحتُهُ الْمَصَائِبُ الشِّدَادُ بَلْ يَقُولُ لَهَا مِثْلَ ماقالَ الشاعرُ׃

دَع الْأَيَّامَ تَفْعَلُ مَا تشـاء *** وَطِبّ نَفْسًا إذَا حَكَمَ الْقَضَاءُ

وَلَا تَجْزَعْ عَن حَوَادِث الليال *** فَمَا لحـوادث اللَّيْل بَقَاء

أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاء وَلَيْسَت دَارَ اسْتِوَاء ، دَارُ اخْتِبَار وَلَيْسَت مَحَطَّ اسْتِقْرَار ، ھﺫا الْمَعْنَى أَدْرَكَه هَؤُلَاءِ اﻠﺫين قَالُوا هَذِهِ الْمَقُولَةَ الْجَمِيلَةَ وتشربتها قُلُوبُهُم الطَّاهِرَةُ ، بَعْدَ أَنْ شمَّروا عَلَى سواعدِهم ، وَاجْتَهَدُوا فأذاقَهم اللَّهُ ﻠﺫةَ مَا بَعْدَهَا ﻠﺫةً عَبَّرُوا عَنْهَا بِقَوْلِهِم : « نَحْنُ فِي لَذَّةٍ لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لجالدونا عَلَيْه بِالسُّيُوفِ » هَذِهِ اللَّذَّةُ لَا تُوجَدُ فِي فنادقَ من خَمْسَةِ نجومٍ وَلَا فِي السَّيَّارَاتِ الفخمةِ وَلَا فِي الْأَطْعِمَةِ الشهيةِ…بل يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي كُوخٍ حَقِيرٍ أَوْ سَجْنٍ مُظْلِم ، وَقَد يَجِدُهَا وَهُو يُعَانِي مِنْ مَرَضٍ عضال…ﺇنما هِي شُعُورٌ وِجْدَانِيٌّ بالاستسلامِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ يَدَيْ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ ، يَعْقُبُه أُنسٌ بِاَللَّه ، وَعِزَّةٌ بمعيته ، قَال الشاعر׃

كُنْ مَعَ اللَّهِ تَرَى اللَّه معك * واترك الْكُلَّ وَحَاذِرْ طَمَعَك

أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ ثَمَّ فَقَدَ وَجَدَ هَذِهِ اللَّذَّةَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ وَسَطَ النِّيرَان ، حِينَ قَالَ رَبُّ الْعِزَّةِ : يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ ، وَوَجَدَهَا سَيِّدُنَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لِمَا خَاطَبَ رَبِّه مناجياً « لَا ﺇله إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ » وَوَجَدَهَا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارِ ثَوْرٍ لَمَّا كَانَ يَختلي بِنَفْسِه بَاحِثًا عَنْ الْحَقِيقَةِ السّاطِعَةِ ، رَافِضًا ظُلمَ قَوْمِه وطغيانَهم . وَكُلُّ مَنْ الْتَجَأَ إِلَى الرُّكْنِ الرُّكَيْن ، وَتَمَسَّكَ بِالْحَبْلِ الْمَتِين ، وَكَان يُرَاقِبُ اللَّهَ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ إلَّا وَذَاق ھﺫه الْحَلَاوَةَ ، وَأَحَاطَتْ بِهِ الْعِنَايَةُ اﻹلهيةُ ، اللَّهُمَّ أذقنا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي عَلَا فقهر ، وَمَلْك فَقَدْر ، وَعَفَا فَغَفَر ، وَعَلِم وَسَتْر ، وَهَزَم وَنَصَر ، وَخَلَقَ وَنَشْرَ ، اللَّهُمّ صلِّ وَسَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ الخُلقِ الْعَظِيم وَالْقَدْرِ الفخيم مَن أَرْسَلْته رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ، وَأَلْحَقْنَا بخُلُقه وأدّبنا بِأَدَبِه ، وأحيي فِينَا سُنتَه يَا كَرِيمُ

وبعد .. أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : فالكونُ مَلِيءٌ بالمخاطرِ ، بَلْ إنَّ الْأَهْوَالِ تُحِيطُ بالإنْسَانِ مِنْ كُلِّ جانب׃ الْأَمْرَاضُ الكَوَارِثُ ، الظُّلْمُ ، الحروبُ .. وَكَأَنَّهُ فِي غَابَةٍ مُوحِشَةٍ ، مُمْتَلِئَةٍ بِالْحَيَوَانَاتِ الْمُفْتَرِسَةِ ، لَكِنْ هَلْ يضيرُ شَيْءٌ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَحْتَمِي بِصَاحِبِ الْغَابَةِ ؟ لَا وَاَللّهِ بَل يَتَجَوَّلُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ وَصَاحِبُ الْغَابَةِ يَذُودُ عَنْه مخاطَرها ! كَذَا الْكَوْنُ مِنْ الْتَجَأَ إِلَى مَالِكِهِ فَلَن يَضُرَّهُ شَيْءٌ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَحْمِيه ويُسخِّر لَه أَلَدِّ أعْدَائِهِ ليَرعوه ويُحققوا مَصَالَحَه ، ﻠﺫا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِأُمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَشِيتْ عَلَى مولودِها مِن بَطْشِ فِرْعَوْنَ وتمرّدِه ׃ « وَإِذَا خَفَّت عَلَيْه فألقيه فِي أَلِيمٌ » مَنْ كَانَ يَجْهَلُ قُدْرَةَ اللَّهُ وَحِكْمَتَه ، فسيتساءلُ مُسْتَغْرَبًا كَيْفَ يَكُونُ الْإِلْقَاءُ فِي الْوَادِي عِلَاجاً لخوفِها عَلَيْه ؟ لَكِنَّ أُمَّ مُوسَى كَانَتْ مُوقَنَةً بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ ، مستسلمةً لِأَمْرِه فَأَلْقَتْهُ فِي الِيمِّ ؛ فَأَرْجَعَه الْمَوْلَى إلَى حِضْنِهَا . فَسُبْحَانَك مِنْ رَبِّ كَرِيمٌ نَسْأَلُك يَا مَوْلَانَا حُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَدَوَامَ الْإِقْبَالِ عَلَيْك وَاكفِّنَا يَا رَبَّنَا وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ وَاخْلَعْ عَلَيْنَا مَخَالِعَ الرِّضْوَانِ.

آمِينَ آمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا