خطبة: مَثَل المؤمن مَثَل النحلة

خطبة: مَثَل المؤمن مَثَل النحلة

خطبة: مَثَل المؤمن مَثَل النحلة

د. مصطفى محمد حجاب

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .أما بعد،

فإن المؤمن بالله له شأن عظيم عند الله عز وجل، ولهذا ورد مدحه والثناء على أفعاله في كثير من الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى إنه شبهه بأطيب المخلوقات، تلك التي لا ضرر منها إنما هي خير محض، ولنقف على مثل المؤمن في هذا الحديث الجليل مستخرجين منه الفوائد الزكية والإشارات النبوية.

 هنيئًا للمؤمن، لا يُضرب له المثل في القرآن والسنة إلا بما هو على شاكلته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَل المؤمن مَثَل النحلة، لا تأكُلُ إلا طيِّبًا، ولا تضَعُ إلا طيِّبًا) (أخرجه النسائي وابن حبان والطبراني وغيرهما، وحسنه الأرناؤوط).

وفي رواية أخرى: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ، أَكَلَتْ طَيِّبًا، وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ فَلَمْ تكْسرْ وَلَمْ تَفْسدْ " (مسند الإمام أحمد بإسناد حسن).

في هذا الحديث شبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم- المؤمن بالنحلة؛ وقد نبه ابن الأثير إلى أكثر الصفات المشتركة بين النحلة والمسلم ، فقال: "وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة حِذْقُ النَّحل وفِطْنَتُه، وَقِلَّةُ أذاهُ، ومنفعتُه، وقُنوعُه، وسَعْيُه في الليل، وتَنزُّهُه عن الأقْذار، وطِيب أكلِه، وَأَنَّهُ لَا يأكلُ مِنْ كَسْب غَيْرِهِ، وطاعتُه لِأَمِيرِهِ". النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 29).

وفي هذا الحديث عدَّد النبي - صلى الله عليه وسلم- تلك الصفات التي تراها في النحلة ويحسن وجودها في المؤمن الحقيقي، فذكر منها : تأكل الطيب، وتضع الطيب، وإذا وقعت على عود لم تكسره، ولم تفسد .

ولنبدأ بما بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث ذكر من أهم صفات النحلة أنها : 

1- تأكل الطيّب: فالنحل لا يمتص إلا رحيق الأزهار الفواحة ويرعي النحل الزهور وأعواد الورود... وليس من الحشرات ما ينتقي ما يقع عليه مثل النحل؛ لذا كان أطيب العسل البري الجبلي الذي ينتقي فيه النحل زهوره بنفسه لا بانتقاء الناس له  فكن – أيها المسلم- كالنحلة، ولا تكن كالذبابة تحوم حول النجاسات والقاذورات وتقع على الجيف النتنة، فالمؤمن إن رأى عيبًا أصلحه، أو خللا سدًّه، أو تقصيرا أكمله، لا يبحث عن أخطاء الآخرين، ولا يجعلها غرضا، فالنحل ينشد الفائدة فقط، ولا يضيع وقته فيما لا ينفع..وكذلك المؤمن لا يتحسس عيوب الناس.. إن رأى تلك الأخطاء لا يجعلها بغيته ومقصوده، بل يمر عليها فيجاوزها كالنحل ولا يقف!

النحل لا يأكل من كسب غيره: قال حكيم من اليونان لتلامذته: "كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته، وأقصته عن الخلية؛ لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلم النشيط الكسل" يعمَل بإتقان ونظام ويجتهد، ولا يتبرَّم مِن العمل، بل يعمَل في صمتٍ، ولا ينتظر منصبًا أو مكانةً في خليَّتِه.

فيا أيها المؤمن، كلْ طيبا، وأطعم غيرك طيبا، وكن للخبيث مجتنبا، وإياك والحرام،    فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ " رواه مسلم.

2- النحلة تضع الطيّب: "يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ " ومما قاله الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: "المسلم كالنحلة التي تطوف بالحدائق والحقول، تطعَمُ الخير، وتُعطي العسل، ولا يرى أحدٌ منها إلا ما يسُرُّ". فمِن صفات المؤمن أن يكون نافعًا للغير كالنحل، عن ابن عمر: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الناس إلى الله تعالى: أنفعُهم للناس, وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا... [أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج بسند حسن].

وقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " كُونُوا فِي النَّاسِ كَالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّيْرِ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا، وَلَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ، لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهَا" (سنن الدارمي، وهو صحيح موقوف ) ومعنى كلامه : المؤمن في مخالطته للناس لا يأخذ منهم إلا طيباً ولا يعطيهم إلا طيباً ولو أساءوا إليه, كالنحلة لا تأخذ إلا طيباً ولا تعطي إلا طيباً، والمؤمن إذا علّم علما كان طيبا ينفع الناس ويمكث في الأرض، وإذا أنتج شيئا كان إنتاجه من أطيب الطيبات، وإذا تكلم قال قولا طيبا، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر، فليقُلْ خيرًا، أو ليصمتْ" (متفق عليه).

3- وإذا وقعت لم تكسر ولم تُفسِد: حتى لسعها - كشرطة الطبيب - يعالج بعض الأمراض، فهي تدفع الخطر عن نفسها، وتداوي من يهاجمها، ولا تهجم هجوم الجراد المهلك، فالنحل ليس من الحشرات التي تفسد كالجراد، بل إن خلاياه يشيدها بعيدا عن مرمى البصر، حتى لا يؤذي أحدا بها ... ولكثرة منافعه وعدم إفساده وإيذائه، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن قتل النحلة.( رواه أبو داود بسند صحيح).

فهذه صفة المؤمن؛ حيثما حل أو ارتحل ينفع ولا يضر، كما أن النحل لا يُفسد في ترحاله وتنقله، لكن بعض الناس يفسدون في الأرض ولا يصلحون!

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وصلى الله على نبيه المصطفى وعلى آله وصحبه ومن بهديه اهتدى ، أما بعد،  فمن صفات النحل العمل الجماعي (في بناء البيوت وفي طلب الرزق) تعمل في مجموعات كبيرة، فقد يصل عدد أفراد الخلية الواحدة إلى خمسة وسبعين ألفا. وخلية النحل تشبه - اليوم - مدينة كبيرة، ويقوم كل فرد من أفراد النحل بأداء عمله ، فمن وظائف شغالة النحل: جمع الرحيق الذي يصنع منه العسل، وجمع حبوب اللقاح أيضا. وتقوم بعض أفراد الشغالة ببناء أقراص العش من شمع مستخرج من أجسامها، ومنها ما يقوم بخدمة الملكة، ومنها ما هو مخصص لتهوية الخلية، والتنظيف، بينما تقوم مجموعات لحراسة الخلية فتلسع أي عدو يقترب منها.

 ومن شأن النحل في تدبير معاشه أنه إذا أصاب موضعا نقيا بنى فيه بيوتا، فقد ألهمه الله سبحانه القائل في كتابه: "وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (سورة النحل: 68، 69) فتأمل كمال طاعتها وحسن امتثالها لأمر ربها، كيف اتخذت بيوتا في هذه الأمكنة الثلاثة الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون؛ أي حيث يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيتا في غير هذه الأمكنة الثلاثة. وتأمل كيف كانت أكثر بيوتها في الجبال، وهي المقدمة في الآية، ثم في الأشجار وهي دون ذلك، ثم فيما يعرش الناس وهي أقل بيوتها. فانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى. فهي تتخذ البيوت أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم الأكل بعد ذلك، فانظر إلى النحلة كيف تصنع هذا امتثالا لوحي الله إليها، فتسلك سبل ربها ذللا، وكذا المسلم مأمور في الوحي بمثل هذا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (الملك:15).

ومع كل هذا الذي ذكرته تجد بعض البشر يكرهون النحل(الذي شُبّه به المسلم)؛ لأنهم لا يرونه إلا حشرة، وقد أغمضوا أعينهم عن هذه الفوائد والمنافع، وعن تلك الصفات الحسنى، فما لنا من حيلة مع أولئك المرضى إلاّ الدعاء لهم أن يشفيهم الله، فيذوقوا حلاوة العسل، ويجدوا ما فيه من شفاء، ويروا حقيقة النحل وما فيه من آيات لقوم يتفكرون.

 

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا