لم يعف رسمها.. بين الإعراب والدلالة

لم يعف رسمها.. بين الإعراب والدلالة

(نظرات جديدة في تراكيب شعرية)

قد يواجه قارئ الشعر العربي عباراتٍ وتراكيب يختلف الشرَّاح في توجيهها نحويًّا ودِلاليًّا، فيتباين فهمها تبعًا لطريقة ربطهم بين الألفاظ والمعاني والقراءة النحوية، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في بيت الطغرائي المشهور من لاميَّة العجم:

أعلِّل النفس بالآمال (أَرقُبُها) * ما أضيقَ العيش لولا فسحةُ الأملِ

فقد ذكر شراح القصيدة ثلاثة أوجه إعرابية لجملة "أرقبها"، وهي: في محل نصب حال، وبدل، وجملة مستأنفة.

ولكن يبدو من سياق البيت أن "أرقبها" مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بـ"الآمال"، وكأنها وصف أو تفصيل مكمِّل لها، فلعل الأوضح في الإعراب، والأقرب إلى مقصد الشاعر، أن تكون جملة "أرقبها" صلة موصول محذوف لضرورة الشعر، لا محل لها من الإعراب، والتقدير: بالآمال (التي) أرقبُها، أي: أنتظر تحقُّقها.

ويمكن تطبيق هذا الوجه الإعرابي على مثالٍ آخر من مشهور الشعر الجاهلي، وهو قول امرئ القيس:

فتوضحَ فالمقراةِ (لم يعفُ رسمُها) * لِما نسجتها من جنوبٍ وشمألِ

ليكون التقدير: (التي) لم يعفُ رسمها، بدلًا من إعراب الجملة في محل نصب حال.

* إشكال مركَّب حول الضمير في "رسمُها":

في شرح التبريزي بتحقيق الأستاذ محمد محيي الدين عبدالحميد، ص 50، حاشية تقول: "الظاهر أن الضمير في "رسمها" يعود إلى المنزل، والمنزل مذكر، فكان عليه أن يقول: "لم يعفُ رسمُه"، ولكنه أنث الضمير باعتبار المعنى، فإن المنزل هو الدار، والدار مؤنثة".

وقريب من هذا القول ما جاء في كتاب أحسن السبك في شرح قفا نبك، ص 16.

ولحل هذا الإشكال يمكن قراءة العبارة من جانبٍ آخر، وهو أن الشاعر جاء بجملة "لم يعفُ رسمُها" بدلًا من "لم تعفُ رسومُها"، وأن كلمة "رسمُها" مفردة بمعنى الجمع، أو بعبارة الأستاذ الدرة في فتح الكبير المتعال: "وقال: رسمها، ولم يقل: رسومها، اكتفاءً بالواحد عن الجميع"، كما في قول علقمة:

بها جيَف الحسرى فأما عظامها * فبِيضٌ وأما (جلدُها) فصليبُ

إذ أراد بلفظة جلدُها: جلودُها.

ولكن هل ينتهي الإشكال إذا قلنا إن رسمها تحمل معنى رسومها؟ وعلى ماذا يعود الضمير "ها" في الكلمة؟

تشير الأسماء الواردة في مطلع المعلقة إلى موضعٍ أساسي، وهو سِقط اللوى، وأربعة مواضع ومعالم حوله تقع في الجزء الغربي من نجد، ويظهر أن الضمير في رسمها، أو رسومها، يعود فقط إلى ثلاثة من هذه المواضع الخمسة، سيأتي ذكرها، وأن الشاعر دعا صاحبيه للذهاب إليها والوقوف عليها واحدًا تلو الآخر لأن أحبابه قد سكنوا فيها وتنقلوا بينها، ثم رحلوا عنها، وبقيت رسوم منازلهم ظاهرةً من بعدهم ولم تندثر، وسبب عدم اندثارها هو أن الرياح تمر عليها من جهتين متعاكستين، وهما الجنوب والشمال، فتُظهر كل ريح رسومَ هذه المنازل التي أخفتها الأولى بالتراب.. وبذلك يتجدد شوقه كلما رأى رسومها، ولا يستطيع نسيان من سكنوها.

وبناءً على ذلك، وإذا أخذنا بالاعتبار أن رواية الأصمعي هي "وَحومل" بدل "فحومل"، ستكون "توضح" معطوفةً على سقط اللوى، وليس على هضاب الدَّخول وحومل؛ لأنهما مذكورتان لوصف موقع سقط اللوى بحكم قربهما من موضعه، وليس للوقوف عليهما، ويكون معنى كلامه: قفا بسقط اللوى، ثم قفا بتوضح، ثم بالمقراة، هذه المواضع التي لم تعفُ رسومها.

وللمزيد من التسهيل، يمكن أن نعيد الضمير في "رسمها" إلى "المقراة" وحدها، وربما كان ذلك أقرب إلى مراد الشاعر، وإذا ربطنا "الرسم" بموضعٍ واحد فسوف يحل الإشكال المذكور، ويزول اللبس، وستكون قراءة البيتين على النحو التالي:

قِفا نبكِ لأجل أو بسبب ذكرى الأحبة ومنازلهم: قِفا أولًا بمنزلهم الواقع في سقط اللوى الذي وصفُه أنه يقع بين الدخول وحومل، ثم قفا بمنزلهم في توضح (بلا وصف)، ثم قفا بمنزلهم في المقراة التي وصفُها أن "رسمها" لم يندرس بعد.

فيكون شطر البيت الأول مخصصًا لوصف سقط اللوى، والبيت الثاني مخصصًا لوصف المقراة، مع الإشارة إلى توضِح، ثم يأتي البيت الثالث لكي يصف جميع هذه الديار والمنازل بأنها أصبحت مهجورة، ولم يعد يسكنها غير الظباء.

وإذا لاحظنا أيضًا أنه كرر التعبير بالمفرد في البيت السادس: "وهل عند (رسمٍ دارسٍ) من معوَّلِ؟"، فقد يدل ذلك على أن رسوم المواضع المذكورة قبل المقراة قد اندرست، وأنه لم يبق في تلك المواضع غيرُ رسم المقراة، ربما لأنها كانت آخر موضعٍ سكنوه في المنطقة.

والرسم هو أثر الدار المتبقي منها، الملاصق للأرض، أما الطلل فهو الأثر الباقي الشاخص والبارز عن الأرض.

.. وعسى أن يكون الإعراب المقترح لجملتَي اللامية والمعلقة قد أتى متوافقًا مع المعنى المقصود والعُرف الشعري.

 

 

 

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا