يوسف .. والسُّجود!
(قصة وعبرة)
محمد بن نبيل الشيخ
لعلك أخي القارئ قد سألت حين قرأت العنوان: من هو يوسف؟ وما علاقته بالسجود؟ أمَّا يوسفُ فهو مسلمٌ يابانيٌّ زارنا الليلةَ، فسألتُه أن يحدِّثني بقصَّة إسلامه؛ فرحَّبَ وبدأَ يقصُّها في غِبطةٍ واعتزاز:
قال يوسفُ: لمَّا بلغتُ العشرين كنتُ أدرُس في كليَّة التمريض، وبَهَرَني ذلكَ الصُّنع المتقَن العجيبُ لبدن الإنسان، فأخذتُ أفكِّر مَلِيًّا: هل يمكن أن يكون هذا التركيب الدقيق المحكَم صنعَ نفسَه أو وجِدَ من غير صانع؟!
ثارتِ الشكوكُ في نفسي، وتدافعَتِ الأفكار، وغمرَني موجٌ متلاحِقٌ من الأسئلة التي تبحثُ عن أجوبة؛ كنتُ أسأل في حَيرة: لماذا ولدتُّ لهذين الوالدَين ولم أولَد لسواهما؟ ولماذا ولدتُّ في أوساكا اليابانية ولم أولَد في بُقعة أخرى من بِقاع الأرض؟ ولماذا هذه الشمس تطلع كلَّ صباح من جهة المشرق ثم تغيبُ آخرَ النهار جهةَ المغرب، لماذا لا يختلُّ ذلك يومًا واحدًا؟!
لم يُطِقْ عقلي تصديقَ أن كلَّ هذا جاء عبثًا دونَ صانع قدير يدبِّر الأمرَ ويسيِّره على وَفقِ حكمةٍ بالغة.
حَفَزَتني هذه الحَيرة المضنيةُ للبحثِ الدؤوبِ في الأديان، حتى انتهيتُ إلى الموازنة بين ثلاثةِ أديان كبيرة هي (البوذية، والنصرانية، والإسلام)، فرُحتُ أقرأ عنها بنَهَمٍ، وأحاكم ما أقرؤه إلى عقلي.
أمَّا البوذية فأوَّل ما رابَني من أمرها أن بوذية اليابانِ مختلفةٌ في كثير من أفكارها عن بوذية الهند؛ فأيُّ البوذِيَّتَين هي الصواب؟!
ثم هذه الأصنام التي ينحِتها عبَّاد بوذا مختلفةُ الصورة متبايِنَة الحجم؛ فأيُّها هو بوذا على التحقيق؟!
لأجلِ هذه الأمور وغيرِها انصرَفَت نفسي عن البوذية.
ثم وجَّهتُ وجهي شطرَ النصرانية، وأخذتُ أفتِّش عنها وعن كتابها الذي كان أولَ ما زهَّدني فيه أنه كُتب بعد المسيحِ بسنينَ متطاولة، ثم هو حكاياتٌ يحكِيها رجالٌ عن المسيح عليه السلام وليس خطابًا من إلهٍ إلى عباده.
هنا لم يبقَ أمامي إلَّا الإسلام، فبدأتُ أتتبَّع أخبارَه في الصُّحف والشابكة وما تطولُه يدي من كتب، وكان ما قرأتُه من آياتِ القرآن المترجمةِ إلى اليابانية مقرِّبًا لي إلى الإسلام كثيرًا، ولم يتيسَّر لي قراءةُ ترجمة كاملةٍ للقرآن في ذلك الحين.
وفي يومٍ من أيام رحلةِ البحث تلكَ رأيتُ صورةً لمسلم ساجدٍ في إحدى الصحف، فأخذَ بعقلي جلالُ المشهد، ونحنُ في اليابان من عادتنا أن الرجلَ يسجدُ لرئيسه إن أخطأَ وأراد الاعتذار، وهو أمرٌ لم تكن نفسي تقبلُه، ويومَ رأيتُ المسلم ساجدًا قلتُ في نفسي: هذا الفعلُ لا ينبغي أن يكونَ إلَّا للإلهِ الخالقِ مدبِّر الكون!
عند ذلك شرحَ الله صدري، وذهبتُ إلى جامع كوبي أقدمِ مساجد اليابان، وكان قريبًا من بيتي، وأسلمتُ لله ربِّ العالمين.
لقد كانت رؤيةُ يوسفَ لصورةِ السجودِ لحظةً فارقةً في حياتِه، ولا عجبَ فإنَّ السجودَ هو أشرفُ أفعالِ الصلاةِ التي هيَ عمودُ هذا الدِّين، وفيهِ من أسرارِ العبودية والقُربِ للربِّ الكريم شيءٌ عظيم، تحدَّث أحدُ أئمَّة المسلمينَ يومًا عمَّا في أفعال الصلاة وأقوالها من الحِكَم والأسرار، فلمَّا بلغَ السجودَ قال:
«ثمَّ شرَعَ له أن يكبِّرَ ويَخِرَّ ساجدًا، ويُعطِيَ في سجوده كلَّ عضوٍ من أعضائه حظَّهُ من العبودية، فيضعَ ناصيتَه بالأرضِ بين يدي ربِّه مسندَةً، راغمًا له أنفُه خاضعًا له قلبُه، ويضعَ أشرفَ ما فيه وهو وجهُه بالأرض ولا سيَّما على التراب، مُعفِّرًا له بين يدي سيِّده، راغمًا له أنفُه، خاضعًا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمَته، خاضعًا لعزَّته، مستكينًا بين يدَيه، أذلَّ شيء وأكسرَه لربِّه تعالى، مسبِّحًا له بعلوِّه في أعظم سُفولِه، قد صارت أعالِيه مَلوِيَّةً لأسافلِه ذلًّا وخضوعًا وانكسارًا، وقد طابق قلبُه حالَ جسمه، فسجدَ القلب كما سجدَ الوجه، وقد سجدَ معه أنفُه ويداه وركبتاه ورجلاه، وشرعَ له أن يُقِلَّ فخِذَيه عن ساقَيه، وبطنَه عن فَخِذَيه، وعضُدَيه عن جنبيه، ليأخذَ كلُّ جزءٍ منه حظَّه من الخضوع، ولا يحمل بعضُه بعضًا، فأَحْرِ به في هذه الحال أن يكون أقربَ إلى ربِّه منه في غيرها من الأحوال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ»[1].
ولمَّا كان سجود القلب خضوعَه التامَّ لربِّه أمكنَه استدامةُ هذا السجود إلى يوم اللقاء؛ كما قِيلَ لبعض السَّلف[2]: هل يسجدُ القلب؟ قال: إي والله! سجدةً لا يرفَعُ رأسَهُ منها حتَّى يلقَى الله»[3].
فكم خَسِرَ من وُلد لأبوَين مسلمَين ثم تركَ السُّجود لخالقِه ومدبِّر أمرِه؟!
سافرَ يوسف بعد ذلك قاصدًا المدينة النبوية لطلب العلم والتفقُّه في الدين، وبدأ بالعربية فأمضى في تعلُّمها عامين، ثم هو اليوم طالبٌ في كلية الشريعة.
وقد حدَّثنا بما أكرمَه الله به حين أسلمَ على يدَيه أربعةٌ من اليابانيين بعد حوارٍ ومناقشة.
كان يوسف يقصُّ علينا هذا الحديث بوجهٍ متهلِّل فَرِح، ولسانٍ لا يفتأ يحمَدُ الله ويشكرُ له أن هداهُ للإسلام.
فاللهم إنَّا نسألُك لنا ولأخينا يوسفَ ثباتًا على الحق، وعزيمةً على الرُّشد، وتوفيقًا لإرشاد الخلق إلى سبيلك.
[1] أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] هو سهل بن عبد الله التستري رحمه الله.
[3] "الكلام على مسألة السماع" لابن قيِّم الجوزية رحمه الله (ص133-135).