الأكل من مال اليتيم وإتلافه

الأكل من مال اليتيم وإتلافه

 

جاء القرآن الكريم محذرا ً من أكل مال اليتيم، فقال جل شأنه: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء (10).

* ومن أسباب نزول الآية أنها : " نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولِيَ مال ابن أخيه، وهو يتيم صغير فأكله". 1

والمراد بالأولياء هم الأوصياء على أموال الصغار، وبالأكل سائر أنواع الإتلافات أو الاستباحة بأي طريق كان وهو رأى جمهور المفسرين 2

وقد بلغ من شدة خوف الصحابة وفهمهم للآية، وحرصهم على طاعة الله عز وجل أنهم عزلوا طعام اليتيم عن طعامهم ؛لئلا يختلط به فيحاسبون على ذلك، فعن ابن عباس – رضى الله عنهما - لما نزلت: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النساء 34، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) (النساء، 10 ) انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم 3

وجاء تقييد الأكل بالظلم أي حال كونهم يأكلونه ظلماً، بغير حق ؛فخرج من ذلك الأكل بحق، كأكل الولي الفقير بالمعروف قال تعالى (ومنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قَالَتْ عائشة – رضى الله عنها- أُنْزِلَتْ فِي وَالِي الْيَتِيمِ أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ. 4

 قَالَ الْعلمَاء فَكل ولي ليتيم إِذا كَانَ فَقِيرا فَأكل من مَاله بِالْمَعْرُوفِ بِقدر قِيَامه عَلَيْهِ فِي مَصَالِحه وتنمية مَاله فَلَا بَأْس عَلَيْهِ، وَمَا زَاد على الْمَعْرُوف فسحت حرَام للآية السابقة، والأكل بِالْمَعْرُوفِ فيه أربعة أَقْوَال:

أَحدهَا: أَنه الْأَخْذ على وَجه الْقَرْض

وَالثَّانِي: الْأكل بِقدر الْحَاجة من غير إِسْرَاف

 والثَّالِث: أَنه أَخذ بِقدر عمله للْيَتِيم

 وَالرَّابِع : أَنه الْأَخْذ عِنْد الضَّرُورَة فَإِن أيسر قَضَاهُ وَإِن لم يوسر فَهُوَ فِي حل

 وَهَذِه الْأَقْوَال ذكرها ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَفْسِيره.

وإن كان وصياً وشغله النظر له عن كسبه فله أن يأخذ أجرته بقدر عمله في ذلك ومن مؤنته اللائقة به عرفاً، ولو تضجر الأب أو الجد من النظر في مال ولده نصب له القاضي قيماً

وقد جاء الإسلام ليعالج مشكلة اجتماعية قد فشت في المجتمع الجاهلي، فحذر أبلغ تحذير من الاستيلاء على مال اليتيم، أو استباحته، أو التفريط في أمواله، وأعد لمن فعل ذلك عذاب السعير، وأكل النار على سبيل الحقيقة

 إن أكل أموال اليتامى أو الاستيلاء عليها، أو قهره له آثار سيئة على المجتمعات إذ هو من أنواع القهر الاجتماعي، ومن أسباب ضعف الأمم والمجتمعات ؛ فهو سبب للمشكلات الاجتماعية كالفقر، والحسد، والحقد، والبطالة، والظلم، والأنانية، والقسوة، والعنف، والكراهية بين الناس والاعتداء على حقوق الآخرين،، بل بين الأقارب فجاء الإسلام بتشريعه فنزع الغل والحسد، والبغض من القلوب، وأقام مكانها الرحمة والعطف على اليتيم والمسكين، والأرملة، وجعل هذه الأعمال من أسباب دخول الجنة، ومرافقة النبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الجنة، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، وبذلك أرسى مبدأ التكافل الاجتماعي، والرحمة بالضعيف، ويعد هذا من أسباب قوة الأمم

 ولا شك أن الشريعة قد سبقت في معالجتها للمشكلات الاجتماعية بنظرتها إلى المآلات والعواقب، وعدم التهاون بحقوق اليتامى ؛ نظراً ليتمهم وضعفهم ؛ وصغر اليتيم، أو عدم إدراكه وفهمه للأمور، لأن العواقب سيئة على المجتمع

وقد أوصى الله نبيه بعدم قهر اليتيم فقال سبحانه: ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ) (الضحى: 9)، فهو حثٌّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على محاسنِ الأخلاقِ ليقتَدي به الناسُ، ويجِدُّوا في سُلوكِ طريقتهِ. ومعنى قهرِ اليتيم : أنْ يقهرَهُ على مالهِ، وأن يظلمَهُ بقولٍ أو فعلٍ. 5

 وكانت العرب تأخذ أموال اليتامى وتظلمهم حقوقهم. 6

وأفاد قوله في بطونهم أنها ظرفاً ليأكلون أن بطونهم أوعية النار على سبيل الحقيقة بأن يخلق الله لهم ناراً يأكلونها في بطونهم. وجاءت السنة كذلك ببيان ذلك النوع من العذاب لمن يأكل أموال اليتامى ظلماً، وهو أكل النار في بطونهم على جهة الحقيقة، ولنا أن تتخيل مدى العذاب الأليم الذى يلحقه من أكل النار في بطنه فيأكلها حتى تخرج من أسفله

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ : حَدَّثَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ : نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمُ لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ بِمَشَافِرِهِمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، قُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاَءِ ؟ قَالَ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا. 7 والمشافر تكون للإبل، وهذا بيان لقبح الصورة، ليكون أشد في الزجر عن هذا الفعل وعند مسلم فإذا أنا برجال، وقد وكل بهم رجال يفكون لحاهم، وآخرون يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها في أفواههم، فتخرج من أدبارهم فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال :هم الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا . وتقرير هذه الحقيقة، أن الجزاء من جنس العمل كما تقرر في أصول الشريعة، وجاء في الحديث السابق كثيراً من الوقائع الدالة عليه. وبذلك يتضح معنى الآية وأن آكل مال اليتيم يعذب بأكل النار على سبيل الحقيقة وأنه عذاب آخر غير عذاب السعير لما فيه من إعمال الحقيقة، وهى أولى من المجاز، وكذلك إعمال الكلام خير من إهماله. ويضاف إلى ذلك أن أكل مال اليتيم مجرب لسوء الخاتمة قاله ابن دقيق العيد

 وجاء تفسير النار في الآية "..إنما يأكلون في بطونهم ناراً أي حراماً 8 ؛ لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى باسمه، وهو قول جماعة من أهل التأويل 9

وجاء التحذير في السنة على أكل مال اليتيم بالآتى:

 1- أنه من الكبائر .ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ، قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ. 10

ومن جملة كتابه صلى الله عليه وسلم الذى أرسله مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن وكان في الكتاب إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : "الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمن بغير حق، و الفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، و تعلم السحر، و أكل الربا، وأكل مال اليتيم" 11

فدل ذلك على أن الأكل من مال اليتيم كبيرة من الكبائر، لأنه معدود من جملة الكبائر، وسميت كبيرة ؛ لما فيها من الوعيد الشديد .

 2-وجاء من شدة الحرص على الحق والعدل في هذه الولاية، "على أموال اليتامى "، وعدم الظلم تحذيراً من الضعف فيها، وأن من وجد من نفسه عدم القدرة عليها فلا يليها. ما أخرجه مسلم عن أبى ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "يا أبا ذر إنى أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم" 12 وضعف أبى ذر – رضى الله عنه- كان من قبيل الزهد في الدنيا وعدم الاهتمام بها .

 3-آكل مال اليتيم ممنوع من دخول الجنة ولا يذوق من نعيمها، بل هو خال مخلد في النار إلا أن يتوب لما روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أرْبَعٌ حَقَّ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَلَا يُذِيقُهُمْ نَعِيمًا: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَآكِلُ رَبًا، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ". 13

4-معاملة اليتيم كابنه، وأنه يجزى بذلك عن عبد الرحمن بن أبزى قال: قال داود : كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأكثر من ذلك أو أقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى، وإذا وعدت صاحبك فأنجز له ما وعدته فإن لا تفعل يؤرث بينك وبينه عداوة، وتعوذ بالله من صاحب إن ذكرت لم يعنك، وإن نسيت لم يذكرك قال الشيخ الألباني : صحيح 14

الحواشي:

1 - تفسير القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى 671هـ) تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر : دار الكتب المصرية – القاهرة الطبعة : الثانية، 1384هـ - 1964 م. جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 3/ 699، المؤلف : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224 - 310) المحقق : مكتب التحقيق بدار هجر. الناشر : دار هجر. الطبعة : الأولى

 2- تفسير القرطبي سورة النساء 5/ 26 3- تفسير القرآن العظيم 1/581، المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ] المحقق : سامي بن محمد سلامة الناشر : دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة : الثانية 1420هـ - 1999 م 4- صحيح البخاري 4/12.

3- تفسير القرآن العظيم 1/581، المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ] المحقق : سامي بن محمد سلامة الناشر : دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة : الثانية 1420هـ - 1999 م

4- صحيح البخارى 4/12.

 5- تفسير القرآن العظيم المنسوب للإمام الطبراني 9 المؤلف : أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطبراني.

 6 - معالم التنزيل8/ 457، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى : 510هـ) المحقق : حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش الناشر : دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة : الرابعة، 1417 هـ - 1997 م

 7- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 6/454، المؤلف : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224 - 310) المحقق : مكتب التحقيق بدار هجر. الناشر : دار هجر. الطبعة : الأولى

 8- تفسير الثوري1/90، المؤلف : أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي (المتوفى : 161هـ) تحقيق : إمتياز علي عرشي الطبعة الاولى 1403 هـ 1983 م الناشر : دار الكتب العلمية بيروت – لبنان

 9- تفسير القرطبى

 10- صحيح البخارى 8/218.

 11 - المستدرك على الصحيحين 1/522، المؤلف : محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى، 1411 - 1990تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا

12صحيح مسلم 6/7 صحيح مسلم / أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري دار الجيل بيروت

 13 - شعب الإيمان أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردى الخرساني البيهقي 7/369 حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه : الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد أخرجه الحاكم وصححه.

 14-الأدب المفرد 1/61 محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي الناشر : دار البشائر الإسلامية – بيروت الطبعة الثالثة، 1409 – 1989 تحقيق : محمد فؤاد عبدالباقي مذيل بأحكام الألبانى.

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا