حديث: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى

حديث: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى

الحديث

عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). رواه البخاري

الشرح

هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ويدخل في أحكام كثيرة، ومعنى النية: قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له. وقيل: هي عزيمة القلب. وقال بعض أهل اللغة: أصل النية الطلب. ويقال: لي عند فلان نية ونواة، أي طلبة وحاجة وأنشد لكثير: وإن الذي ينوي من المال أهلها .... أوارك لما تأتلف وعوادي. يريد ما يطلبونه من المهر.

وقوله: (إنما الأعمال بالنيات). لم يرد به أعيان الأعمال؛ لأنها حاصلة حسا وعيانا بغير نية، وإنما معناه أن صحة أحكام الأعمال في حق الدين إنما تقع بالنية، وأن النيات هي الفاصلة بين ما يصح منها وبين ما لا يصح، وكلمة (إنما) عاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها أن العبادة إذا صحبتها النية صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح، ومقتضى حق العموم منها يوجب أن لا يصح عمل من الأعمال الدينية أقوالها وأفعالها إلا بنية دخل فيها التوحيد الذي هو رأس أعمال الدين فلا يصح القول بالتوحيد إلا بمعرفة وقصد إخلاص فيه، وكذلك سائر أعمال الدين، من الصلاة والزكاة والصيام والوضوء بالماء والتيمم بالتراب، فلو أن رجلا غسل أعضاء الوضوء من بدنه تبردا أو تنظفا لم يجزه أن يصلي بذلك حتى ينوي بالوضوء رفع الحدث، وكذلك لو فعله يريد به تعليم غيره الوضوء. ومثل ذلك لو انغمس في نهر ليتعلم سباحة أو يصطاد سمكا، أو يستخرج من قعره شيئا، أو ليأخذ ما يطفو على متنه من غثاء وحطب في نحو ذلك، لم يجز أن يصلي بشيء منها حتى يكون قصده بمس الماء نوعا من العبادة التي لا تجزي [تجزئ] إلا بطهارة. ويدخل في عمومه فرض الأعمال ونفلها وقليلها وكثيرها.

وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى). تفصيل لبيان ما تقدم ذكره، وتأكيد له، وفيه معنى خاص لا يستفاد من الفصل الأول، وهو إيجاب تعيين النية للعمل الذي يباشره، فلو نوى رجل أن يصلي أربع ركعات عن فرضه إن كان قد فاته، وإلا فهي تطوع لم تجزه عن فرضه، لأنه لم يمحِّض النية له ولم يعينه بأن لا يشرك معه غيره وإنما داول في النية بين الفرض وبدله، فلم تجد النية قرارا، وكذلك هذا فيمن نوى في آخر ليالي شعبان أن يصوم غدا عن فرض رمضان إن أهل الهلال، وإلا فهو تطوع، فصادف صومه الشهر لم يجزه عن فرضه، وكذلك هذا فيمن فاتته صلاة من الصلوات الخمس، لا يعرفها بعينها، فإن عليه أن يصليها كلها، ينوي كل واحدة منها عن فرضه، وقد زعم بعضُ من ينتسب إلى مذهب الشافعي رحمه الله أنه قد يمكنه استدراك الفائت من فرضه بأن يصلي أربع ركعات، يجهر في الأوليين منها ويقعد في الثانية ويتشهد، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يصلي الثالثة ويقعد فيها ويتشهد، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقوم إلى الرابعة فيصليها ويقعد للتشهد والصلاة، ثم يسلم، فتكون الثالثة كزيادة ركعة، بالشك على الفريضة إن كان الفائت صبحا، والرابعة كذلك زيادة ركعة، بالشك على فرضه إن كان مغربا ويكون تمام الأربع عن سائر الفرائض أيتها فاتته. وهذا لا يصح عند أكثر أصحاب الشافعي على مذهبه، ولكنه قد يتوجَّه على مذاهب بعض فقهاء العراق فإنه قال: إذا فاتته صلاة يوم وليلة صلى ركعتين للفجر وثلاثا المغرب وأربعا تجزئه عن أيتها كانت من الصلوات الثلاث، وذلك لأنه لم يراع التعيين في الفائتة إنما راعى الصفة فيها.

فأما موضع النيات فإنها تختلف، منها ما تجب المحاذاة بها للعمل الذي ينوي له كالصلاة والطهارة. ومنها ما يجوز تقديمها على العمل كالصيام. ومنها ما يتضمن النية جملة أفعال متفرقة ينتظمها اسم واحد، فتنوب النية الواحدة عنها كلها وقد تتأخر نية التعيين عن وقت إنشاء الإحرام، ثم يصرفه إلى ما أحب من الحج والعمرة مفردا لكل واحدة منها أو جامعا بها بينهما. وقد يقع في بعض الأعمال على إبهام، ثم يقع التعيين لموضعها فيما بعد، كمن عليه كفارتان من قتل نفس وظهار وهو واجد للرقبة، فإذا أعتق رقبة ولم تحضره النية عن العتق نواه فيما بعد لأيتهما شاء. وعلى (كل) حال فلا ينفك عمل من أعمال العبادات عن نية ما، ولا يق شيء منها محتسبا بها في ذات الله إلا بها، وإنما جاز التقديم والتأخير فيها لعلل وأسباب ليس هذا موضع ذكرها.

وقد ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة ولم ينوه عن الفرض لم يجزه، وجوزه الشافعي؛ لأن النية الأولى قد تضمن جميع أفعال الحج، وكذلك قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

وقال مالك بن أنس في الصرورة: إذا نوى الحج عن غيره وقع عن المحجوج عنه.

واحتج له بعض أصحابه بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا قد نواه عن زيد فلا يقع عن عمرو. قال: ولو كان الحج واقعا عن نفسه لحصل بلا نية. (وقد خصت النية بأن لا صحة لعمل من أعمال الدين إلا بنية).

ومما يجب عليك أن تحكمه في هذا الباب تقدمة المعرفة بأمور منها:

أن تعرف الشيء الذي تعبدت به، وأن تعلم أنك مأمور به، وأن تطلب موافقة الآمر فيما تعبدت به، فإنك إذا لم تعلم صفة ما أمرت به لم يتأت لك فعله على الوجه الذي تعبدت به، ومن فعل المأمور به من غير أن يعرف أنه مأمور به أو في جملة المأمورين به لم يكن في فعله مطيعا للآمر، ومن عرف الآمر ثم لم يقصد بفعله المأمور به موافقة الآمر لم يكن ممتثلا لأمره وهذا جملة من أمر علم النية وما يدخل في معناها.

وقد يستدل من هذا الحديث في مواضع من أحكام المعاملات وما يتصل بها مما ليس من باب العبادات المحضة، منها أن يستدل به على أنه من أكره على الكفر فتكلم به على التقية وهو ينوي معنى يخالف ظاهر القول الذي جرى على لسانه أنه لا يكفر به، فكذلك من أكره على يمين بظلم أو أكره على طلاق إذا ألحد في النية إلى غير معنى فساد النكاح ونيته، كما ينوي أن تكون طالقا من وثاق أو نحوه، وقد يطلقها بلفظ من ألفاظ الكنايات يحتمل معنى وقوع البينونة فيكون ما نوى من العدد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لركانة حين طلق امرأته البتة: كم أردت؟

ويدخل في هذا المعنى ما ينويه الإنسان في يمينه مما يخالف باطن معناه ظاهر الاسم فيسقط عنه الحنث، كمن قال: والله ما رأيت زيدا، وهو ينوي أنه لم يصب رئته، وما كلمت عمرا، يريد ما جرحته، ونحو ذلك من الكلام المحتمل للمعاني المختلفة.

وقد يستدل به على أن كل ما يحتال به في العقود والبياعات من غش وخلابة واستفضال صرف أو ربا، أن جميع ذلك باطل في حق الدين، لأنه إنما قصد به التوصل إلى المحظور والأمر المحرم، لا يجوز أن يستباح به الشيء المحظور في حق الدين، وقد استدل به بعضهم على أن طلاق السكران غير واقع، إذا كان لا يدري ما يقول، وهذا الاستدلال فيه بعد وضعف؛ لأن موضع النية من الطلاق خالٍ وجوبا وسقوطا إلا أن يكون إيقاعُه الطلاق بلفظ من ألفاظ الكناية فيتعلق بالنية.

وقد زعم قوم أن الاستدلال بهذا الحديث في غير نوع العبادات غيرُ صحيح، لأن الحديث إنما جاء في اختلاف مصارف وجوه العبادات لاختلاف النيات لها، فإذا أخرج إلى غير نوع ما جاء فيه لم تسر دلالته إليه، فأما عوام الفقهاء فإنهم إنما ينظرون إلى اتساع لفظ الكلام واحتمال الاسم لما يصلح صرفه إليه من المعاني ويراعون الأسباب التي يخرج عليها الكلام، ولا يقصرونه على نوعه حتى لا يتعداه إلى غيره.

وقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله) فمعناه أن من قصد بالهجرة قصد القربة إلى الله عز وجل لا يخلطها بشيء من (الدنيا) وطلب أرب من آرابها، فهجرته إلى الله ورسوله أي فهجرته مقبولة عند الله وعند رسوله، وأجره واقع على الله عز وجل، (ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يريد أن حظه من هجرته هو ما قصده من دنيا، ولا حظ له في الآخرة.

ويروى أن هذا إنما جاء في رجل كان يخطب امرأة بمكة فهاجرت إلى المدينة فتبعها الرجل رغبة في نكاحها فقيل له: مهاجر أم قيس.

مصدر المادة
أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) - المؤلف: أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت 388هـ)
للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا