التَّعرِيفُ:
الإبضَاعُ مَصدَرُ أَبضَعَ، وَمِنهُ البِضَاعَةُ. وَالبِضَاعَةُ مِن مَعَانِيهَا القِطعَةُ مِنَ المَالِ، أَو هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ المَالِ تُبعَثُ لِلتِّجَارَةِ. وَأَبضَعَهُ البِضَاعَةَ: أَعطَاهُ إِيَّاهَا. وَيُعَرِّفُ الفُقَهَاءُ الإبضَاعَ بِأَنَّهُ بَعثُ المَالِ مَعَ مَن يَتَّجِرُ بِهِ تَبَرُّعًا، وَالرِّبحُ كُلُّهُ لِرَبِّ المَالِ[1]. هَذَا وَالأصلُ أَن يَكُونَ الإبضَاعُ تَبَرُّعًا مِنَ العَامِلِ. وَاعتَبَرَهُ المَالِكِيَّةُ إِبضَاعًا وَلَو كَانَ بِأَجرٍ.
وَيُطلِقُ الفُقَهَاءُ لَفظَ البِضَاعَةِ عَلَى المَالِ المَبعُوثِ لِلاِتِّجَارِ بِهِ، وَالإبضَاعَ عَلَى العَقدِ ذَاتِهِ، وَقَد يُطلِقُونَ البِضَاعَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا العَقدَ.
صِفَةُ الإبضَاعِ (حُكمُهُ التَّكلِيفِيُّ):
الإبضَاعُ عَقدٌ جَائِزٌ لأَِنَّهُ يَتِمُّ عَلَى وَجهٍ لاَ غَرَرَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَتِ المُضَارَبَةُ، مَعَ مَا فِيهَا مِن شُبهَةِ غَرَرٍ، جَائِزَةً[2] فَمِن بَابِ أَولَى أَن يَقَعَ الإبضَاعُ جَائِزًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقدُهُ مُستَقِلًّا أَم تَابِعًا لِعَقدِ المُضَارَبَةِ، كَأَن دَفَعَ العَامِلُ المَالَ بِضَاعَةً لِعَامِلٍ آخَرَ، فَهُوَ عَقدٌ صَحِيحٌ؛ لأَنَّ الإبضَاعَ سَبِيلٌ لإِِنمَاءِ المَالِ بِلاَ أَجرٍ، وَهَذَا مِمَّا يَرتَضِيهِ رَبُّ المَالِ.
حِكمَةُ تَشرِيعِهِ:
الإبضَاعُ مِن عَادَةِ التُّجَّارِ،[3] وَالحَاجَةُ قَد تَدعُو إِلَيهِ؛ لأَِنَّ رَبَّ المَالِ قَد لاَ يُحسِنُ البَيعَ وَالشِّرَاءَ، أَو لاَ يُمكِنُهُ الخُرُوجُ إِلَى السُّوقِ، وَقَد يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلاَ يُحسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَقَد يُحسِنُ وَلاَ يَتَفَرَّغُ وَقَد لاَ تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ، لِكَونِهِ امرَأَةً، أَو مِمَّن يَتَعَيَّرُ بِهَا،[4] فَيُوَكِّلُ غَيرَهُ. وَمَا الإبضَاعُ إِلاَّ تَوكِيلٌ بِلاَ جُعلٍ، فَهُوَ حِينَئِذٍ سَبِيلٌ لِلمَعرُوفِ وَتَآلُفِ القُلُوبِ وَتَوثِيقِ الرَّوَابِطِ، خُصُوصًا بَينَ التُّجَّارِ.
وَكَمَا أَنَّ عَقدَ الإبضَاعِ سَبِيلٌ لإِِنمَاءِ مَالِ رَبِّ المَالِ، فَقَد يَكُونُ سَبِيلاً لإِِنمَاءِ مَالِ العَامِلِ المُتَبَرِّعِ، وَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ العَامِلُ مَعَ رَبِّ المَالِ بِالنِّصفِ مَثَلاً، كَأَن يُقَدِّمَ رَبُّ المَالِ أَلفًا وَالعَامِلُ أَلفًا، وَيَكُونَ الرِّبحُ مُنَاصَفَةً بَينَهُمَا، فَالمُشَارَكَةُ هُنَا تَزِيدُ فِي رَأسِ المَالِ، وَبِالتَّالِي تَزِيدُ الأربَاحُ، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِن مَصلَحَةِ العَامِلِ. فَيَكُونُ العَامِلُ هُنَا استَخدَمَ مَالَ رَبِّ المَالِ، وَهُوَ النِّصفُ، وَرَدَّ لَهُ أَربَاحَهُ مُتَبَرِّعًا بِعَمَلِهِ، وَاستَفَادَ هُوَ مِن مُشَارَكَةِ مَالِ رَبِّ المَالِ فِي زِيَادَةِ رَأسِ مَالِهِ، وَمِن ثَمَّ يَزِيدُ رِبحُهُ.
صِيغَةُ الإبضَاعِ:
أَجمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى اعتِبَارِ الصِّيغَةِ، وَهِيَ الإيجَابُ وَالقَبُولُ، رُكنًا فِي كُلِّ عَقدٍ. وَتَفصِيلُ الكَلاَمِ فِي ذَلِكَ يُرجَعُ إِلَيهِ عِندَ الكَلاَمِ عَلَى العَقدِ.
وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالإبضَاعِ فَإِنَّ الصِّيغَةَ اللَّفظِيَّةَ قَد تَكُونُ
صَرِيحَةً بِلَفظِ الإبضَاعِ، أَوِ البِضَاعَةِ، وَقَد تَكُونُ غَيرَ صَرِيحَةٍ، كَأَن يَقُولَ: خُذ هَذَا المَالَ مُضَارَبَةً، عَلَى أَن يَكُونَ الرِّبحُ كُلُّهُ لِي. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَلُّ خِلاَفٍ بَينَ الفُقَهَاءِ[5]. فَذَهَبَ الحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا العَقدَ لاَ يَصِحُّ، وَاعتَبَرُوا ذَلِكَ مِن بَابِ التَّنَاقُضِ؛ لأَِنَّ قَولَهُ: «مُضَارَبَةً» يَقتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبحِ، وَقَولَهُ: «الرِّبحُ كُلُّهُ لِي» يَقتَضِي عَدَمَهَا، فَتَنَاقَضَ قَولُهُ، فَفَسَدَتِ المُضَارَبَةُ، وَلأَِنَّهُ اشتَرَطَ اختِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالرِّبحِ، وَهَذَا شَرطٌ يُنَاقِضُ العَقدَ فَفَسَدَ، وَلأَِنَّ اللَّفظَ الصَّرِيحَ فِي بَابِهِ لاَ يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيرِهِ، فَالمُضَارَبَةُ لاَ تَنقَلِبُ إِبضَاعًا وَلاَ قَرضًا. وَعَلَى هَذَا اعتَبَرُوا هَذَا العَقدَ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً[6].
وَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا إِبضَاعٌ صَحِيحٌ، لِوُجُودِ مَعنَى الإبضَاعِ هُنَا، فَانصَرَفَ إِلَيهِ، كَمَا لَو قَالَ: اتَّجِر بِهِ وَالرِّبحُ كُلُّهُ لِي، وَذَلِكَ لأَِنَّ العِبرَةَ فِي العُقُودِ لِمَعَانِيهَا.
وَالمَالِكِيَّةُ أَجَازُوا اشتِرَاطَ رِبحِ القِرَاضِ كُلِّهِ لِرَبِّ المَالِ أَو لِلعَامِلِ فِي مَشهُورِ مَذهَبِ مَالِكٍ، أَو لِغَيرِهِمَا فِي المُدَوَّنَةِ؛ لأَِنَّهُ مِن بَابِ التَّبَرُّعِ، لَكِنَّهُم لاَ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ الحَنَفِيَّةُ: إِنَّ العَقدَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِبضَاعٌ،
بَل يَقُولُونَ: إِنَّ إِطلاَقَ القِرَاضِ عَلَيهِ مَجَازٌ[7]. وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ المَالِكِيَّةَ رَأيُهُم كَرَأيِ الحَنَفِيَّةِ وَإِن كَانُوا يُخَالِفُونَ فِي التَّسمِيَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنِ اعتَبَرَ مِثلَ هَذَا العَقدِ صَحِيحًا فَلاَ يَرَى أَنَّ العَامِلَ يَستَحِقُّ شَيئًا بَل هُوَ مُتَبَرِّعٌ بِالعَمَلِ. وَأَمَّا مَنِ اعتَبَرَهُ فَاسِدًا فَيُوجِبُ لَهُ أَجرَ المِثلِ.
وَبَعضُ الشَّافِعِيَّةِ اعتَبَرَ حَالَ العَامِلِ، فَإِن كَانَ يَجهَلُ حُكمَ الإبضَاعِ وَأَنَّهُ لاَ يُوجِبُ لَهُ أَجرًا وَلاَ جُزءًا مِنَ الرِّبحِ فَإِنَّهُم يَرَونَ أَنَّ لَهُ أَجرَ المِثلِ. وَيُنسَبُ هَذَا الرَّأيُ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ. وَجَهلُ مِثلِ هَذَا الحُكمِ مِمَّا يُعذَرُ بِهِ بَعضُ النَّاسِ[8].
[1] تحفة المحتاج بشرح المنهاج 6 / 89 ط دار صادر، وحاشية الرشيدي والشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 224 ط مصطفى الحلبي، وبدائع الصنائع 6 / 87 ط الجمالية، وحاشية النظم المستعذب في غريب ألفاظ المهذب 1 / 385 ط عيسى الحلبي، ورد المحتار 4 / 742، ومنتهى الإرادات 1 / 460 ط دار العروبة، والمقنع 2 / 171 ط السلفية، وكشاف اصطلاحات الفنون 1 / 136 ط كلكتة، والمهذب 1 / 385، والخرشي 4 / 424، 425 المطبعة الشرفية.
[2] جهة الغرر في كون الإجارة وقعت على عمل مجهول، بأجر مجهول، لكن هذا الغرر مغتفر بما ورد من أدلة جواز المضاربة بالسنة والإجماع.
[3] بدائع الصنائع 6 / 87، والمغني ومعه الشرح الكبير 5 / 131 ط الأولى، المنار.
[4] المغني والشرح الكبير 5 / 203
[5] حاشية الرشيدي والشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 224، وتحفة المحتاج 6 / 89
[6] مطالب أولي النهى 3 / 518 ط المكتب الإسلامي، والإنصاف 5 / 428 ط حامد الفقي، والمقنع 2 / 172، والمغني والشرح الكبير 5 / 136، والموسوعة الفقهية، بحث المضاربة ف 4، وحاشية الرشيدي على نهاية المحتاج 5 / 224، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج 6 / 89، والمهذب 1 / 385
[7] بدائع الصنائع 6 / 86، والمغني والشرح الكبير 5 / 112، 137، وأسهل المدارك 2 / 354، وبلغة السالك 2 / 249
[8] المهذب 1 / 385، ونهاية المحتاج وحواشيه 5 / 224، والخرشي 4 / 425، والشرح الصغير 2 / 249، وابن قاسم على التحفة 6 / 89، ومطالب أولي النهى 3 / 518، والإنصاف 5 / 428، والمغني 5 / 136.