أحكام ماء زمزم الفقهية

البِئرُ الَّتِي خُصَّت بِالفَضلِ

بِئرُ زَمزَمَ بِمَكَّةَ[1] لَهَا مَكَانَةٌ إِسلاَمِيَّةٌ. رَوَى ابنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «خَيرُ مَاءٍ عَلَى وَجهِ الأرضِ زَمزَمُ»[2]. وَعَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَاءُ زَمزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، إِن شَرِبتَهُ تَستَشفِي بِهِ شَفَاكَ اللَّهُ، وَإِن شَرِبتَهُ لِقَطعِ ظَمَئِكَ قَطَعَهُ اللَّهُ»[3].

وَلِلشُّربِ مِنهُ وَاستِعمَالِهِ آدَابٌ نَصَّ عَلَيهَا الفُقَهَاءُ. فَقَالُوا: إِنَّهُ يُستَحَبُّ لِشَارِبِهِ أَن يَستَقبِلَ القِبلَةَ، وَيَذكُرَ اسمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَنَفَّسَ ثَلاَثًا، وَيَتَضَلَّعَ مِنهُ، وَيَحمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَدعُوَ بِمَا كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَدعُو بِهِ إِذَا شَرِبَ مِنهُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ عِلمًا نَافِعًا وَرِزقًا وَاسِعًا وَشِفَاءً مِن كُلِّ دَاءٍ» [4]. وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَن نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَاءَ زَمزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ وَأَنَا أَشرَبُهُ لِكَذَا» [5]

وَيَجُوزُ بِالاِتِّفَاقِ نَقلُ شَيءٍ مِن مَائِهَا. وَالأصلُ فِي جَوَازِ نَقلِهِ مَا جَاءَ فِي جَامِعِ التِّرمِذِيِّ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَمَلَت مِن مَاءِ زَمزَمَ فِي القَوَارِيرِ، وَقَالَت: «حَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنهَا. وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى المَرضَى وَيَسقِيهِم»[6]. وَرَوَى ابنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ استَهدَى سُهَيلَ بنَ عَمرٍو مِن مَاءِ زَمزَمَ»[7].

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ استِعمَالِهِ فِي مَوَاضِعِ الاِمتِهَانِ، كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الحَقِيقِيَّةِ. وَيَجزِمُ المُحِبُّ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ بِتَحرِيمِ ذَلِكَ. وَهُوَ مَا يَحتَمِلُهُ كَلاَمُ ابنِ شَعبَانَ المَالِكِيِّ، وَمَا رَوَاهُ ابنُ عَابِدِينَ عَن بَعضِ الحَنَفِيَّةِ، لَكِنَّ أَصلَ المَذهَبِ الحَنَفِيِّ وَالمَذهَبِ المَالِكِيِّ الكَرَاهَةُ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ بِهِ الرُّويَانِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي «الحِليَةِ»، وَصَرَّحَ بِهِ البَيجُورِيُّ، وَاستَظهَرَهُ القَاضِي زَكَرِيَّا، وَقَالَ: إِنَّ المَنعَ عَلَى وَجهِ الأدَبِ، وَهُوَ المُعَبَّرُ عَنهُ هُنَا مِن بَعضِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِخِلاَفِ الأولَى[8].

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنبَغِي أَن يُغَسَّلَ بِهِ مَيِّتٌ ابتِدَاءً. وَنَقَلَ الفَاكِهِيُّ أَنَّ أَهلَ مَكَّةَ يُغَسِّلُونَ مَوتَاهُم بِمَاءِ زَمزَمَ إِذَا فَرَغُوا مِن غَسلِ المَيِّتِ وَتَنظِيفِهِ، تَبَرُّكًا بِهِ، وَأَنَّ أَسمَاءَ بِنتَ أَبِي بَكرٍ غَسَّلَتِ ابنَهَا عَبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيرِ بِمَاءِ زَمزَمَ[9].

وَلاَ خِلاَفَ مُعتَبَرًا فِي جَوَازِ الوُضُوءِ وَالغُسلِ بِهِ لِمَن كَانَ طَاهِرَ الأعضَاءِ،[10] بَل صَرَّحَ البَعضُ بِاستِحبَابِ ذَلِكَ. وَلاَ يُعَوَّلُ عَلَى القَولِ بِالكَرَاهَةِ اعتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ طَعَامٌ، لِمَا رُوِيَ عَن الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِن قَولِهِ: «هُوَ طَعَامٌ...»[11] وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الكَرَاهَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِسَجلٍ مِن مَاءِ زَمزَمَ فَشَرِبَ مِنهُ وَتَوَضَّأَ»[12]. وَيَقُولُ الفَاسِيُّ المَالِكِيُّ: التَّطهِيرُ بِمَاءِ زَمزَمَ صَحِيحٌ بِالإجمَاعِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ المَاوَردِيُّ فِي حَاوِيهِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرحِ المُهَذَّبِ. وَمُقتَضَى مَا ذَكَرَهُ ابنُ حَبِيبٍ المَالِكِيُّ استِحبَابُ التَّوَضُّؤِ بِهِ[13]. وَكَونُهُ مُبَارَكًا لاَ يَمنَعُ الوُضُوءَ بِهِ، كَالمَاءِ الَّذِي وَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِيهِ.[14]

وَقَد صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ استِعمَالِ مَاءِ زَمزَمَ فِي الحَدَثِ دُونَ الخَبَثِ[15]. وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ عُمُومُ قَولِ الحَنَابِلَةِ: وَلاَ يُكرَهُ الوُضُوءُ وَالغُسلُ بِمَاءِ زَمزَمَ عَلَى مَا هُوَ الأولَى فِي المَذهَبِ[16]. أَمَّا الحَنَفِيَّةُ فَقَد صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَغتَسِلُ بِهِ جُنُبٌ وَلاَ مُحدِثٌ[17].


[1] بئر زمزم غورها ستون ذراعا، وفي مقرها ثلاث عيون، ولها عدة أسماء ذكرها الفاسي في شفاء الغرام 1 / 247، 251 ط عيسى الحلبي.

[2] حديث: «خير ماء...» سبق تخريجه قريبا.

[3] حديث: «ماء زمزم...» رواه الدارقطني، والحاكم، وروي بعدة روايات باجتماعها يصلح للاحتجاج به. (سنن الدارقطنى 2 / 289 ط الفنية، والمقاصد الحسنة / 357 ط دار الأدب العربي)

[4] قول ابن عباس: «اللهم إني أسألك علما نافعا...» رواه الدارقطني موقوفا (الدارقطني 2 / 288 ط الفنية) وفي سنده من اختلف فيه (ميزان الاعتدال تحقيق البجاوي 1 / 560 ط الأولى عيسى الحلبي)

[5] البيجوري 1 / 332 ط سنة 1343 هـ، وانظر المغني 3 / 470، وكشاف القناع 14 / 20. وحديث: «ماء زمزم لما شرب له» روي بعدة روايات بعضها من رواية ابن أبي شيبة وأحمد، وابن ماجه والبيهقي في السنن عن جابر. وفيه خلاف طويل وقال ابن حجر: غريب حسن بشواهده (فيض القدير 5 / 404 ط الأولى التجارية).

[6] حديث: «حمل رسول الله من ماء زمزم» أخرجه الترمذي عن عائشة أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (تحفة الأحوذي 4 / 37 نشر السلفية، وأخرجه البيهقي والحاكم وصححه (نيل الأوطار 5 / 87 ط الأولى العثمانية)

[7] حديث: «أن رسول الله اهتدى سهيل بن عمرو ماء زمزم» رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفي سنده من اختلف فيه. (مجمع الزوائد 3 / 286).

[8] البيجوري 1 / 28 ط مصطفى الحلبي سنة 1343 هـ. وحاشية البجيرمي وشرح الخطيب 1 / 65، 66 ط مصطفى الحلبي سنة 1370 هـ.

[9] شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 258.

[10] حاشية ابن عابدين 2 / 263 ط بولاق، وإرشاد الساري شرح مناسك ملا علي القاري ص 328 ط المكتبة التجارية، وكفاية الطالب مع حاشية العدوي 1 / 128 ط الحلبي والغرر البهية شرح البهجة الوردية 1 / 28، والشرح الكبير المطبوع مع المغني 1 / 10 ط المنار سنة 1346 هـ.

[11] حديث: «هو طعام طعم...» روي بعدة روايات ، منها ما رواه ابن أبي شيبة، والبزار عن أبي ذر مرفوعا: «زمزم طعام طعم وشفاء سقم» قال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح، قال ابن حجر: وأصله في مسلم دون قوله: «وشفاء سقم» (فيض القدير 4 / 64).

[12] حديث: «أن النبي دعا بسجل...» رواه عبد الله بن أحمد عن غير أبيه عن علي بن أبي طالب، فيه قصة طويلة. وفي الفتح الرباني: لم أقف عليه من حديث علي لغير عبد الله بن أحمد، وسنده جيد، ومعناه في الصحيحين (الفتح الرباني 11 / 86 ط أولى).

[13] كفاية الطالب مع حاشية العدوي 1 / 128 ط الحلبي.

[14] الشرح الكبير المطبوع مع المغني 1 / 11 ط 1346 هـ.

[15] البيجوري 1 / 27.

[16] الشرح الكبير المطبوع مع المغني 1 / 10، 11.

[17] إرشاد الساري شرح مناسك ملا علي القاري ص 328

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا