أثر وقوع الحيوان في البئر
الأصلُ أَنَّ المَاءَ الكَثِيرَ لاَ يَنجُسُ إِلاَّ بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوصَافِهِ كَمَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ المَذَاهِبِ الأربَعَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَيسَ لَهُ نَفسٌ سَائِلَةٌ، إِذَا مَا وَقَعَ فِي مَاءِ البِئرِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَتِهِ، كَالنَّحلِ، لِحَدِيثِ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَت فِيهِ دَابَّةٌ لَيسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَت فَهُوَ حَلاَلٌ»[1]. وَمِمَّا قِيلَ فِي تَوجِيهِهِ أَنَّ المُنَجِّسَ لَهُ الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ، فَمَا لاَ دَمَ لَهُ سَائِلاً لاَ يَتَنَجَّسُ بِالمَوتِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ المَائِعَاتِ[2]. وَكَذَا مَا كَانَ مَأكُولَ اللَّحمِ، إِذَا لَم يَكُن يُعلَمُ أَنَّ عَلَى بَدَنِهِ أَو مَخرَجِهِ نَجَاسَةً، وَخَرَجَ حَيًّا، مَا دَامَ لَم يَتَسَبَّب فِي تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوصَافِ المَاءِ، عَدَا مَا كَانَ نَجِسَ العَينِ كَالخِنزِيرِ[3].
وَيَرَى الحَنَابِلَةُ وَبَعضُ الحَنَفِيَّةِ أَنَّ المُعتَبَرَ السُّؤرُ، فَإِن كَانَ لَم يَصِل فَمُهُ إِلَى المَاءِ لاَ يُنزَحُ مِنهُ شَيءٌ، وَإِن وَصَلَ وَكَانَ سُؤرُهُ طَاهِرًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ. يَقُولُ الكَاسَانِيُّ: وَقَالَ البَعضُ: المُعتَبَرُ السُّؤرُ. وَيَقُولُ ابنُ قُدَامَةَ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكمُ جِلدِهِ وَشَعرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمعِهِ وَلُعَابِهِ حُكمُ سُؤرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ[4]. وَيُنظَرُ حُكمُ السُّؤرِ فِي مُصطَلَحِ «سُؤر».
وَيَختَلِفُ الفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَغَيرُ الحَنَفِيَّةِ مِن فُقَهَاءِ المَذَاهِبِ الأربَعَةِ يَتَّجِهُونَ إِلَى عَدَمِ التَّوَسُّعِ فِي الحُكمِ بِالتَّنَجُّسِ بِوُقُوعِ الحَيَوَانِ ذِي النَّفسِ السَّائِلَةِ (الدَّمِ السَّائِلِ) عُمُومًا، وَإِن وُجِدَ بَعضُ اختِلاَفٍ بَينَهُم.
فَالمَالِكِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ المَاءَ الرَّاكِدَ، أَوِ الَّذِي لَهُ مَادَّةٌ، أَو كَانَ المَاءُ جَارِيًا، إِذَا مَاتَ فِيهِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ ذُو نَفسٍ سَائِلَةٍ، أَو حَيَوَانٌ بَحرِيٌّ، لاَ يَنجُسُ، وَإِن كَانَ يُندَبُ نَزحُ قَدرٍ مُعَيَّنٍ، لاِحتِمَالِ نُزُولِ فَضَلاَتٍ مِنَ المَيِّتِ، وَلأَِنَّهُ تَعَافُهُ النَّفسُ[5]. وَإِذَا وَقَعَ شَيءٌ مِن ذَلِكَ وَأُخرِجَ حَيًّا، أَو وَقَعَ بَعدَ أَن مَاتَ بِالخَارِجِ، فَإِنَّ المَاءَ لاَ يَنجُسُ وَلاَ يُنزَحُ مِنهُ شَيءٌ؛ لأَِنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ بِالمَاءِ لاَ يُطلَبُ بِسَبَبِهِ النَّزحُ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ الخِلاَفَ فِيهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. وَمَوتُ الدَّابَّةِ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلأَِنَّ سُقُوطَ الدَّابَّةِ بَعدَ مَوتِهَا فِي المَاءِ هُوَ بِمَنزِلَةِ سُقُوطِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ مِن بَولٍ وَغَائِطٍ، وَذَاتُهَا صَارَت نَجِسَةً بِالمَوتِ. فَلَو طُلِبَ النَّزحُ فِي سُقُوطِهَا مَيِّتَةً لَطُلِبَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلاَ قَائِلَ بِذَلِكَ فِي المَذهَبِ.
وَقِيلَ: يُستَحَبُّ النَّزحُ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّابَّةِ وَصِغَرِهَا، وَكَثرَةِ مَاءِ البِئرِ وَقِلَّتِهِ.
وَعَنِ ابنِ المَاجِشُونَ وَابنِ عَبدِ الحَكَمِ وَأَصبَغَ: أَنَّ الآبَارَ الصِّغَارَ مِثلَ آبَارِ الدُّورِ، تَفسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِيهَا، مِن شَاةٍ أَو دَجَاجَةٍ، وَإِن لَم تَتَغَيَّر، وَلاَ تَفسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا فَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَنزِلَةِ مَا مَاتَ فِيهِ، وَقِيلَ: لاَ تَفسُدُ حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَقَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ المَاءُ طَعمًا أَو لَونًا أَو رِيحًا بِتَفَسُّخِ الحَيَوَانِ فِيهِ تَنَجَّسَ[6].
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَاءُ البِئرِ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتَت فِيهِ نَجَاسَةٌ، كَفَأرَةٍ تَمَعَّطَ شَعرُهَا بِحَيثُ لاَ يَخلُو دَلوٌ مِن شَعرَةٍ، فَهُوَ طَهُورٌ كَمَا كَانَ إِن لَم يَتَغَيَّر. وَعَلَى القَولِ بِأَنَّ الشَّعرَ نَجِسٌ يُنزَحُ المَاءُ كُلُّهُ لِيَذهَبَ الشَّعرُ، مَعَ مُلاَحَظَةِ أَنَّ اليَسِيرَ عُرفًا مِنَ الشَّعرِ مَعفُوٌّ عَنهُ مَا عَدَا شَعرَ الكَلبِ وَالخِنزِيرِ.
وَيُفهَمُ مِن هَذَا أَنَّ مَاءَ البِئرِ إِذَا كَانَ قَلِيلاً فَإِنَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَو لَم يَتَغَيَّر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابنُ المَاجِشُونَ وَمَن مَعَهُ مِنَ المَالِكِيَّةِ فِي الآبَارِ الصِّغَارِ إِذَا مَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ ذُو نَفسٍ سَائِلَةٍ[7].
وَيَقُولُ الحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَتِ الفَأرَةُ أَوِ الهِرَّةُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَت حَيَّةً، فَهُوَ طَاهِرٌ، لأَِنَّ الأصلَ الطَّهَارَةُ. وَإِصَابَةُ المَاءِ لِمَوضِعِ النَّجَاسَةِ مَشكُوكٌ فِيهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكمُ جِلدِهِ وَشَعرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمعِهِ وَلُعَابِهِ حُكمُ سُؤرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ.
وَيُفهَمُ مِن قَيدِ «ثُمَّ خَرَجَت حَيَّةً» أَنَّهَا لَو مَاتَت فِيهِ يَتَنَجَّسُ المَاءُ، كَمَا يُفهَمُ مِن تَقيِيدِ المَاءِ «بِاليَسِيرِ» أَنَّ المَاءَ الكَثِيرَ لاَ يَنجُسُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ وَصفُهُ[8].
أَمَّا الحَنَفِيَّةُ فَقَد أَكثَرُوا مِنَ التَّفصِيلاَتِ، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الفَأرَةَ إِذَا وَقَعَت هَارِبَةً مِنَ القِطِّ يُنزَحُ كُلُّ المَاءِ؛ لأَنَّهَا تَبُولُ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَت مَجرُوحَةً أَو مُتَنَجِّسَةً. وَقَالُوا: إِن كَانَتِ البِئرُ مَعِينًا، أَوِ المَاءُ عَشرًا فِي عَشرٍ، لَكِن تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوصَافِهِ، وَلَم يُمكِن نَزحُهَا، نُزِحَ قَدرُ مَا كَانَ فِيهَا.
وَإِذَا كَانَتِ البِئرُ غَيرَ مَعِينٍ، وَلاَ عَشرًا فِي عَشرٍ، نُزِحَ مِنهَا عِشرُونَ دَلوًا بِطَرِيقِ الوُجُوبِ، إِلَى ثَلاَثِينَ نَدبًا، بِمَوتِ فَأرَةٍ أَو عُصفُورٍ أَو سَامٍّ أَبرَصَ. وَلَو وَقَعَ أَكثَرُ مِن فَأرَةٍ إِلَى الأربَعِ فَكَالوَاحِدَةِ عِندَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَو خَمسًا إِلَى التِّسعِ كَالدَّجَاجَةِ، وَعَشرًا كَالشَّاةِ، وَلَو فَأرَتَينِ كَهَيئَةِ الدَّجَاجَةِ يُنزَحُ أَربَعُونَ عِندَ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا مَاتَ فِيهَا حَمَامَةٌ أَو دَجَاجَةٌ أَو سِنَّورٌ يُنزَحُ أَربَعُونَ وُجُوبًا إِلَى سِتِّينَ استِحبَابًا. وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى خَمسِينَ.
وَيُنزَحُ كُلُّهُ لِسِنَّورَينِ وَشَاةٍ، أَوِ انتِفَاخِ الحَيَوَانِ الدَّمَوِيِّ، أَو تَفَسُّخِهِ وَلَو صَغِيرًا. وَبِانغِمَاسِ كَلبٍ حَتَّى لَو خَرَجَ حَيًّا. وَكَذَا كُلُّ مَا سُؤرُهُ نَجِسٌ أَو مَشكُوكٌ فِيهِ. وَقَالُوا فِي الشَّاةِ: إِن خَرَجَت حَيَّةً فَإِن كَانَت هَارِبَةً مِنَ السَّبُعِ نُزِحَ كُلُّهُ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ[9].
وَرُوِيَ عَن أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي البَقَرِ وَالإبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ المَاءَ؛ لأَنَّهَا تَبُولُ بَينَ أَفخَاذِهَا فَلاَ تَخلُو مِنَ البَولِ. وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ نَزحَ عِشرِينَ دَلوًا،
لأَنَّ بَولَ مَا يُؤكَلُ لَحمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، وَقَدِ ازدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ البِئرِ فَيَكفِي نَزحُ أَدنَى مَا يُنزَحُ. وَعَن أَبِي يُوسُفَ: يُنزَحُ مَاءُ البِئرِ كُلُّهُ، لاِستِوَاءِ النَّجَاسَةِ الخَفِيفَةِ وَالغَلِيظَةِ فِي حُكمِ تَنَجُّسِ المَاءِ[10].
[1] حديث: «كل طعام وشراب..» رواه الدارقطني عن سلمان قال: قال رسول الله : «يا سلمان، كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله وشربه ووضوءه»، ورواه البيهقي من حديث علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان. وفيه بقية بن الوليد، وقد تفرد به، وشيخه مجهول، وقد ضُعف. وعلي بن زيد ضعيف، وقال الحاكم: هذا الحديث غير محفوظ. انظر (تلخيص الحبير 1 / 28 ط الفنية، والدارقطني 1 / 37)
[2] تبيين الحقائق 1 / 23، وبلغة السالك 1 / 15 ـ 16، وفتح المعين بحاشية إعانة الطالبين 1 / 33، والمغني 1 / 41
[4] البدائع 1 / 74، وتبيين الحقائق 1 / 28 ـ 30، والمغني1 / 45 ط سنة 1346 هـ.
[6] بلغة السالك 1 / 17 ط سنة 1372 هـ، وحاشية الرهوني 1 / 57 ـ 59 ط بولاق.
[7] أسنى المطالب 1 / 13 ـ 15، والمجموع 1 / 148 ـ 149 ط إدارة الطباعة المنيرية، والوجيز 1 / 8
[8] المغني 1 / 45 سنة 1346 هـ.