تقسيمات الفقه الإسلامي

لِلفِقهِ تَقسِيمَاتٌ شَتَّى لاِعتِبَارَاتٍ شَتَّى، نَكتَفِي مِنهَا بِذِكرِ التَّقسِيمَاتِ الآتِيَةِ:

أ - تَقسِيمُ مَسَائِلِهِ بِاعتِبَارِ أَدِلَّتِهِ:

وَهُوَ بِهَذَا الاِعتِبَارِ يَنقَسِمُ إِلَى قِسمَينِ:

أَوَّلُهُمَا: فِقهٌ مُعتَمِدٌ عَلَى أَدِلَّةٍ قَطعِيَّةٍ فِي ثُبُوتِهَا وَدَلاَلَتِهَا، كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّومِ وَالحَجِّ عَلَى المُستَطِيعِ، وَكَحُرمَةِ الزِّنَى وَالرِّبَا وَشُربِ الخَمرِ وَإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ.

وَثَانِيهِمَا: فِقهٌ يَعتَمِدُ عَلَى أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ كَتَحدِيدِ القَدرِ المَمسُوحِ مِن الرَّأسِ، وَالقِرَاءَةِ المُتَعَيَّنَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَتَعيِينِ عِدَّةِ المُطَلَّقَةِ ذَاتِ الحَيضِ أَبِالطُّهرِ أَم بِالحَيضِ؟ وَهَل الخَلوَةُ الصَّحِيحَةُ مُوجِبَةٌ لِتَمَامِ المَهرِ وَوُجُوبِ العِدَّةِ؟.. إِلَى غَيرِ ذَلِكَ.

وَكَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الأحكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَدِلَّةٍ قَطعِيَّةٍ مَعلُومَةٌ مِن الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لاَ تُعتَبَرُ فِي نَظَرِ الأصُولِيِّينَ فِقهًا، وَإِن اعتُبِرَت فِي نَظَرِ الفُقَهَاءِ.

ب - تَقسِيمُ الفِقهِ بِاعتِبَارِ مَوضُوعَاتِهِ:

لَمَّا كَانَ عِلمُ الفِقهِ هُوَ العِلمَ الَّذِي تُعرَفُ مِنهُ أَحكَامُ اللَّهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَفعَالِ العِبَادِ، اقتِضَاءً أَو تَخيِيرًا أَو وَضعًا، فَإِنَّهُ بِهَذَا الاِعتِبَارِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَصدُرُ عَن العِبَادِ. وَبِهَذَا تَعَدَّدَت مَوضُوعَاتُهُ، فَالأحكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ عَلاَقَةَ العَبدِ بِاللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَت بِالعِبَادَاتِ، سَوَاءٌ كَانَت هَذِهِ العِبَادَاتُ بَدَنِيَّةً مَحضَةً وَهِيَ الصَّومُ وَالصَّلاَةُ، أَو مَالِيَّةً مَحضَةً وَهِيَ الزَّكَاةُ، أَو مِنهُمَا وَهِيَ فَرِيضَةُ الحَجِّ. وَالأحكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ الأسرَةَ مِن زَوَاجٍ وَطَلاَقٍ وَنَفَقَةٍ وَحَضَانَةٍ وَوِلاَيَةٍ وَنَسَبٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ أُطلِقَ عَلَيهَا الآنَ فِقهُ الأحوَالِ الشَّخصِيَّةِ، وَأَلحَقُوا بِهَا الوَصَايَا وَالإرثَ لاِتِّصَالِهِمَا الوَثِيقِ بِأَحكَامِ الأسرَةِ.

وَالأحكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ مُعَامَلاَتِ النَّاسِ مِن بَيعٍ وَشِرَاءٍ وَشَرِكَةٍ - بِكُلِّ صُوَرِهَا - وَرَهنٍ وَكَفَالَةٍ وَوَكَالَةٍ وَهِبَةٍ وَإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ، قَد أَطلَقُوا عَلَيهَا الآنَ اسمَ القَانُونِ المَدَنِيِّ أَوِ التِّجَارِيِّ.

وَالأحكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ القَضَاءَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِن طُرُقِ الإثبَاتِ أَطلَقُوا عَلَيهَا اسمَ قَانُونِ المُرَافَعَاتِ.

وَالأحكَامُ الَّتِي تُنَظِّمُ عَلاَقَةَ الحَاكِمِ بِالمَحكُومِينَ، وَالمَحكُومِينَ بِالحَاكِمِ أَطلَقُوا عَلَيهَا الآنَ اسمَ القَانُونِ الدُّستُورِيِّ.

وَالأحكَامُ الَّتِي نَظَّمَت عَلاَقَةَ المُسلِمِينَ بِغَيرِهِم سِلمًا وَحَربًا قَد أَطلَقَ عَلَيهَا الفُقَهَاءُ القُدَامَى اسمَ السِّيَرِ، وَسَمَّاهَا المُحدَثُونَ بِاسمِ القَانُونِ الدُّوَلِيِّ.

وَالأحكَامُ الَّتِي تَتَنَاوَلُ تَصَرُّفَاتِ العِبَادِ فِي مَأكَلِهِم وَمَلبَسِهِم وَسُلُوكِهِم أَطلَقَ عَلَيهَا الفُقَهَاءُ مَسَائِلَ الحَظرِ وَالإبَاحَةِ.

وَالأحكَامُ الَّتِي حَدَّدَتِ الجَرَائِمَ وَالعُقُوبَاتِ قَد أَطلَقَ عَلَيهَا فُقَهَاؤُنَا اسمَ الحُدُودِ وَالجِنَايَاتِ وَالتَّعزِيرَاتِ، وَسَمَّاهَا المُحدَثُونَ بِاسمِ القَانُونِ الجَزَائِيِّ أَوِ الجِنَائِيِّ.

وَمِن هَذَا البَيَانِ المُختَصَرِ يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الفِقهَ تَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَتَّصِلُ بِالإنسَانِ، فَلَيسَ قَاصِرًا - كَمَا يَزعُمُ البَعضُ - عَلَى تَنظِيمِ عَلاَقَةِ الإنسَانِ بِرَبِّهِ، فَمَن ذَهَبَ هَذَا المَذهَبَ إِمَّا جَاهِلٌ أَو مُتَجَاهِلٌ بِالفِقهِ الإسلاَمِيِّ وَمَوضُوعَاتِهِ.

ج - تَقسِيمُ الفِقهِ بِاعتِبَارِ حِكمَتِهِ:

تَنقَسِمُ مَسَائِلُ الفِقهِ مِن حَيثُ إِدرَاكُ حِكمَةِ التَّشرِيعِ فِيهِ أَو عَدَمُ إِدرَاكِهَا إِلَى قِسمَينِ:

أَوَّلُهُمَا: أَحكَامٌ مَعقُولَةُ المَعنَى، وَقَد تُسَمَّى أَحكَامًا مُعَلَّلَةً، وَهِيَ تِلكَ الأحكَامُ الَّتِي تُدرَكُ حِكمَةُ تَشرِيعِهَا، إِمَّا لِلتَّنصِيصِ عَلَى هَذِهِ الحِكمَةِ، أَو يُسرِ استِنبَاطِهَا. وَهَذِهِ المَسَائِلُ هِيَ الأكثَرُ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حَيثُ: لَم يَمتَحِنَّا بِمَا تَعيَا العُقُولُ بِهِ حِرصًا عَلَينَا فَلَم نَرتَب وَلَم نَهِم وَذَلِكَ كَتَشرِيعِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ فِي الجُملَةِ، وَكَتَشرِيعِ إِيجَابِ المَهرِ فِي النِّكَاحِ، وَالعِدَّةِ فِي الطَّلاَقِ وَالوَفَاةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلزَّوجَةِ وَالأولاَدِ وَالأقَارِبِ، وَكَتَشرِيعِ الطَّلاَقِ عِندَمَا تَتَعَقَّدُ الحَيَاةُ الزَّوجِيَّةُ... إِلَى آلاَفِ المَسَائِلِ الفِقهِيَّةِ.

وَثَانِيهِمَا: أَحكَامٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، وَهِيَ تِلكَ الأحكَامُ الَّتِي لاَ تُدرَكُ فِيهَا المُنَاسَبَةُ بَينَ الفِعلِ وَالحُكمِ المُرَتَّبِ عَلَيهِ، وَذَلِكَ كَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَكَأَكثَرِ أَعمَالِ الحَجِّ. وَمِن رَحمَةِ اللَّهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الأحكَامَ قَلِيلَةٌ بِالنِّسبَةِ إِلَى الأحكَامِ المَعقُولَةِ المَعنَى.

وَتَشرِيعُ هَذِهِ الأحكَامِ التَّعَبُّدِيَّةِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ اختِبَارُ العَبدِ هَل هُوَ مُؤمِنٌ حَقًّا؟.

وَمِمَّا يَنبَغِي أَن يُعلَمَ فِي هَذَا المَقَامِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا لَم تَأتِ بِمَا تَرفُضُهُ العُقُولُ، وَلَكِنَّهَا قَد تَأتِي بِمَا لاَ تُدرِكُهُ العُقُولُ، وَشَتَّانَ بَينَ الأمرَينِ، فَالإنسَانُ إِذَا اقتَنَعَ - عَقلِيًّا - بِأَنَّ اللَّهَ مَوجُودٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ المُستَحِقُّ وَحدَهُ لِلرُّبُوبِيَّةِ دُونَ غَيرِهِ، وَاقتَنَعَ - عَقلِيًّا - بِمَا شَاهَدَ مِن المُعجِزَاتِ وَالأدِلَّةِ، بِصِدقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم المُبَلِّغِ عَنهُ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ قَد أَقَرَّ لِلَّهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بِالحَاكِمِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفسِهِ بِالعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا مَا أُمِرَ بِأَمرٍ، أَو نُهِيَ عَن شَيءٍ، فَقَالَ: لاَ أَمتَثِلُ حَتَّى أَعرِفَ الحِكمَةَ فِيمَا أُمِرتُ بِهِ أَو نُهِيتُ عَنهُ، يَكُونُ قَد كَذَّبَ نَفسَهُ فِي دَعوَى أَنَّهُ مُؤمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ لِلعُقُولِ حَدًّا يَنتَهِي إِلَيهِ إِدرَاكُهَا، كَمَا أَنَّ لِلحَوَاسِّ حَدًّا تَقِفُ عِندَهُ لاَ تَتَجَاوَزُهُ.

وَمَا مَثَلُ المُتَمَرِّدِ عَلَى أَحكَامِ اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبُّدِيَّةِ إِلاَّ كَمَثَلِ مَرِيضٍ ذَهَبَ إِلَى طَبِيبٍ مَوثُوقٍ بِعِلمِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَوَصَفَ لَهُ أَنوَاعًا مِن الأدوِيَةِ، بَعضَهَا قَبلَ الأكلِ وَبَعضَهَا أَثنَاءَهُ وَبَعضَهَا بَعدَهُ، مُختَلِفَةَ المَقَادِيرِ، فَقَالَ لِلطَّبِيبِ: لاَ أَتَعَاطَى دَوَاءَكَ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي الحِكمَةَ فِي كَونِ هَذَا قَبلَ الطَّعَامِ وَهَذَا بَعدَهُ، وَهَذَا أَثنَاءَهُ، وَلِمَاذَا تَفَاوَتَتِ الجَرعَاتُ قِلَّةً وَكَثرَةً؟

فَهَل هَذَا المَرِيضُ وَاثِقٌ حَقًّا بِطَبِيبِهِ؟ فَكَذَلِكَ مَن يَدَّعِي الإيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَتَمَرَّدُ عَلَى الأحكَامِ الَّتِي لاَ يُدرِكُ حِكمَتَهَا، إِذ المُؤمِنُ الحَقُّ إِذَا أُمِرَ بِأَمرٍ أَو نُهِيَ عَنهُ يَقُولُ: سَمِعتُ وَأَطَعتُ، وَلاَ سِيَّمَا بَعدَ أَن بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيسَ هُنَاكَ أَحكَامٌ تَرفُضُهَا العُقُولُ السَّلِيمَةُ، فَعَدَمُ العِلمِ بِالشَّيءِ لَيسَ دَلِيلاً عَلَى نَفيِهِ، فَكَم مِن أَحكَامٍ خَفِيَت عَلَينَا حِكمَتُهَا فِيمَا مَضَى ثُمَّ انكَشَفَ لَنَا مَا فِيهَا مِن حِكمَةٍ بَالِغَةٍ، فَقَد كَانَ خَافِيًا عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ حِكمَةُ تَحرِيمِ لَحمِ الخِنزِيرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا مَا يَحمِلُهُ هَذَا الحَيَوَانُ الخَبِيثُ مِن أَمرَاضٍ وَصِفَاتٍ خَبِيثَةٍ، أَرَادَ اللَّهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أَن يَحمِيَ مِنهَا المُجتَمَعَ الإسلاَمِيَّ. وَمِثلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الأمرِ بِغَسلِ الإنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الكَلبُ سَبعَ مَرَّاتٍ إِحدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.. إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِن الأحكَامِ الَّتِي تَكشِفُ الأيَّامُ عَن سِرِّ تَشرِيعِهَا وَإِن كَانَت خَافِيَةً عَلَينَا الآنَ.

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا