مَا إِن أَهَلَّ القَرنُ السَّادِسِ الهِجرِيِّ حَتَّى نَادَى بَعضُ العُلَمَاءِ بِإِقفَالِ بَابِ الاِجتِهَادِ، وَقَالُوا: لَم يَترُك الأوَائِلُ لِلأوَاخِرِ شَيئًا. وَكَانَت حُجَّتُهُم فِي ذَلِكَ قُصُورَ الهِمَمِ وَخَرَابَ الذِّمَمِ، وَتَسَلُّطَ الحُكَّامِ المُستَبِدِّينَ، وَخَشيَةَ أَن يَتَعَرَّضَ لِلاِجتِهَادِ مَن لَيسَ أَهلاً لَهُ، إِمَّا رَهبَةً أَو رَغبَةً، فَسَدًّا لِلذَّرَائِعِ أَفتَوا بِإِقفَالِ بَابِ الاِجتِهَادِ.
وَتَعَرَّضَ بَعضُ مَن خَالَفَ الأوَائِلَ فِي آرَائِهِم لِسَخَطِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ، وَلَكِن مَعَ هَذَا فَقَد كَانَ يَظهَرُ بَينَ الفَينَةِ وَالفَينَةِ مَن ادَّعَى الاِجتِهَادَ أَوِ ادُّعِيَ لَهُ، وَكَانَت لَهُم اجتِهَادَاتٌ لاَ بَأسَ بِهَا كَابنِ تَيمِيَّةَ وَتِلمِيذِهِ ابنِ القَيِّمِ، وَالكَمَالِ بنِ الهُمَامِ الحَنَفِيِّ المَذهَبِ. فَقَد كَانَت لَهُ اجتِهَادَاتٌ خَرَجَ فِيهَا عَلَى المَذهَبِ... وَمِن هَؤُلاَءِ تَاجُ الدِّينِ السُّبكِيُّ صَاحِبُ جَمعِ الجَوَامِعِ، وَأَبُوهُ مِن قَبلِهِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَد كَانَ اجتِهَادُ هَؤُلاَءِ لاَ يَخرُجُ عَن تَرجِيحِ رَأيٍ عَلَى رَأيٍ، أَو حَلٍّ لِمُشكِلَةٍ عَارِضَةٍ لَم يَتَعَرَّض لَهَا الأئِمَّةُ المُتَقَدِّمُونَ.
وَالَّذِي نَدِينُ اللَّهَ عَلَيهِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَن يَكُونَ فِي الأمَّةِ عُلَمَاءُ مُتَخَصِّصُونَ، عَلَى عِلمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَوَاطِنِ الإجمَاعِ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَن جَاءَ بَعدَهُم. كَمَا يَنبَغِي أَن يَكُونُوا عَلَى خِبرَةٍ تَامَّةٍ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا القُرآنُ الكَرِيمُ، وَدُوِّنَت بِهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، وَأَن يَكُونُوا قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَ ذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، لاَ يَخشَونَ فِي اللَّهِ لَومَةَ لاَئِمٍ، لِتَرجِعَ إِلَيهِم الأمَّةُ فِيمَا نَزَلَ بِهَا مِن أَحدَاثٍ، وَمَا يَجِدُّ مِن نَوَازِلَ، وَأَلاَّ يُفتَحَ بَابُ الاِجتِهَادِ عَلَى مِصرَاعَيهِ، فَيَلِجَ فِيهِ مَن لاَ يُحسِنُ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللَّهِ فِي المُصحَفِ، كَمَا لاَ يُحسِنُ أَن يَجمَعَ بَينَ أَشتَاتِ المَوضُوعِ، وَيُرَجِّحَ بَعضَهَا عَلَى بَعضٍ.
وَالَّذِينَ أَفتَوا بِإِقفَالِ بَابِ الاِجتِهَادِ إِنَّمَا نَزَعُوا عَن خَوفٍ مِن أَن يَدَّعِيَ الاِجتِهَادَ أَمثَالُ هَؤُلاَءِ، وَأَن يَفتَرِيَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ، فَيَقُولُونَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ، مِن غَيرِ دَلِيلٍ وَلاَ بُرهَانٍ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِرضَاءً لِلحُكَّامِ. وَلَقَد رَأَينَا بَعضَ مَن يَدَّعِي الاِجتِهَادَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ القَولَ بِكَذَا وَكَذَا فِيهِ تَرضِيَةٌ لِهَؤُلاَءِ السَّادَةِ، فَيَسبِقُونَهُم بِالقَولِ. وَيَعتَمِدُ هَؤُلاَءِ الحُكَّامُ عَلَى آرَاءِ هَؤُلاَءِ المُدَّعِينَ. فَقَد رَأَينَا فِي عَصرِنَا هَذَا مَن أَفتَى بِحِلِّ الرِّبَا الاِستِغلاَلِيِّ دُونَ الاِستِهلاَكِيِّ، بَل مِنهُم مَن قَالَ بِحِلِّهِ مُطلَقًا؛ لأَِنَّ المَصلَحَةَ - فِي زَعمِهِ - تُوجِبُ الأخذَ بِهِ. وَمِنهُم مَن أَفتَى بِجَوَازِ الإجهَاضِ ابتِغَاءَ تَحدِيدِ النَّسلِ، لأَِنَّ بَعضَ الحُكَّامِ يَرَى هَذَا الرَّأيَ، وَيُسَمِّيهِ تَنظِيمَ الأسرَةِ، وَمِنهُم مَن يَرَى أَنَّ إِقَامَةَ الحُدُودِ لاَ تَثبُتُ إِلاَّ عَلَى مَن اعتَادَ الجَرِيمَةَ المُوجِبَةَ لِلحَدِّ، وَمِنهُم... وَمِنهُم... فَأَمثَالُ هَؤُلاَءِ هُم الَّذِينَ حَمَلُوا أَهلَ الوَرَعِ مِن العُلَمَاءِ عَلَى القَولِ بِإِقفَالِ بَابِ الاِجتِهَادِ.
وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ القَولَ بِحُرمَةِ الاِجتِهَادِ وَإِقفَالِ بَابِهِ جُملَةً وَتَفصِيلاً لاَ يَتَّفِقُ مَعَ الشَّرِيعَةِ نَصًّا وَرُوحًا، وَإِنَّمَا القَولَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ إِبَاحَتُهُ، بَل وُجُوبُهُ عَلَى مَن تَوَفَّرَت فِيهِ شُرُوطُهُ. لأَِنَّ الأمَّةَ فِي حَاجَةٍ، إِلَى مَعرِفَةِ الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ فِيمَا جَدَّ مِن أَحدَاثٍ لَم تَقَع فِي العُصُورِ القَدِيمَةِ.