انتشار المذاهب الفقهية وبقائها
هُنَاكَ مَذَاهِبَ اندَثَرَت، وَأُخرَى بَقِيَت وَنَمَت. وَقَد ذَهَبَ بَعضُ المُؤَرِّخِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَرجِعُ إِلَى قُوَّةِ السُّلطَانِ وَالنُّفُوذِ.
وَهَذَا القَولُ عَلَى إِطلاَقِهِ - مَردُودٌ - فَقَد يَكُونُ لِلسُّلطَانِ وَالنُّفُوذِ بَعضُ الأثَرِ فِي بَقَاءِ مَا بَقِيَ مِن المَذَاهِبِ وَانتِشَارِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الأثَرَ ضَئِيلٌ، إِذ إِنَّ الدَّولَةَ العَبَّاسِيَّةَ - وَكَانَ نُفُوذُهَا مُمتَدًّا عَلَى جَمِيعِ الأقطَارِ الإسلاَمِيَّةِ - كَانَ القَضَاءُ بِيَدِ الفُقَهَاءِ الحَنَفِيِّينَ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّنَا نَجِدُ أَنَّ مَذهَبَ الحَنَفِيَّةِ لَم يَجِد لَهُ أَتبَاعًا فِي الشَّمَالِ الإفرِيقِيِّ أَو فِي مِصرَ إِلاَّ قِلَّةً قَلِيلَةً، بَل إِنَّ الكَثرَةَ الكَثِيرَةَ مِن بِلاَدِ فَارِسَ كَانَ مَذهَبُ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الغَالِبَ عَلَى أَهلِهَا يَومَئِذٍ، وَكَانَ مَذهَبُ الحَنَفِيَّةِ إِبَّانَ هَذِهِ الدَّولَةِ قَاصِرًا عَلَى العِرَاقِ وَبِلاَدِ مَا وَرَاءَ النَّهرِ وَبَعضِ بِلاَدِ فَارِسَ. كَمَا أَنَّ الدَّولَةَ العُثمَانِيَّةَ وَكَانَ سُلطَانُهَا يَمتَدُّ عَلَى أَكثَرِ البِلاَدِ الإسلاَمِيَّةِ كَانَ مَذهَبُهَا الرَّسمِيُّ هُوَ المَذهَبَ الحَنَفِيَّ، وَكَانَ القَضَاءُ فِي كُلِّ السَّلطَنَةِ العُثمَانِيَّةِ فِي عُلَمَاءِ هَذَا المَذهَبِ، وَمَعَ هَذَا نَجِدُ أَنَّ الشَّمَالَ الإفرِيقِيَّ كُلَّهُ لاَ يَنتَشِرُ فِيهِ إِلاَّ مَذهَبُ مَالِكٍ، اللَّهُمَّ إِلاَّ النَّزرَ اليَسِيرَ فِي عَاصِمَةِ تُونُسَ فِي بَعضِ الأسَرِ المُنحَدِرَةِ مِن أَصلٍ تُركِيٍّ. وَكَذَلِكَ الحَالُ فِي مِصرَ، فَإِنَّ أَكثَرَ أَهلِهَا شَافِعِيُّ المَذهَبِ وَمِنهُم المَالِكِيُّونَ فِي صَعِيدِ مِصرَ أَو فِي مُحَافَظَةِ البُحَيرَةِ، وَلاَ نَجِدُ الحَنَفِيِّينَ إِلاَّ قِلَّةً قَلِيلَةً مُنحَدِرَةً مِن أَصلٍ تُركِيٍّ أَو شَركَسِيٍّ أَو تَمَذهَبَ بِهَذَا المَذهَبِ طَمَعًا فِي تَوَلِّي القَضَاءِ... وَإِن كَانَت حَلَقَاتُ الدِّرَاسَةِ فِي الأزهَرِ عَامِرَةً بِطُلاَّبِ هَذَا المَذهَبِ، وَلَكِنَّ العَامَّةَ إِمَّا شَافِعِيُّونَ أَو مَالِكِيُّونَ، فَأَينَ تَأثِيرُ السُّلطَانِ فِي فَرضِ مَذهَبٍ خَاصٍّ؟.
وَمِثلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي شِبهِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ وَمَنَاطِقِ الخَلِيجِ، فَقَد كَانَت كُلُّهَا تَابِعَةً لِلدَّولَةِ العُثمَانِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى أَنَّ المَذَاهِبَ المُنتَشِرَةَ فِي هَذِهِ المَنَاطِقِ هِيَ مَذهَبُ المَالِكِيَّةِ وَالحَنَابِلَةِ، وَرُبَّمَا الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ وُجُودَ لِمُعتَنِقِي مَذهَبِ الحَنَفِيَّةِ إِلاَّ شِرذِمَةً قَلِيلَةً.
وَالحَقُّ أَنَّ بَقَاءَ مَذهَبٍ مَا أَوِ انتِشَارَهُ يَعتَمِدُ - أَوَّلاً وَقَبلَ كُلِّ شَيءٍ - عَلَى ثِقَةِ النَّاسِ بِصَاحِبِ المَذهَبِ وَاطمِئنَانِهِم إِلَيهِ، وَعَلَى قُوَّةِ أَصحَابِهِ وَدَأبِهِم عَلَى نَشرِهِ وَتَحقِيقِ مَسَائِلِهِ وَتَيسِيرِ فَهمِ هَذِهِ المَسَائِلِ بِحُسنِ عَرضِهَا.