طبقات المقلدين

المُقَلِّدُونَ: وَهَؤُلاَءِ لَيسَ لَهُم اجتِهَادٌ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُم فِي قُوَّةِ النَّقلِ. وَهُم طَبَقَتَانِ: طَبَقَةُ الحُفَّاظِ، وَطَبَقَةُ الاِتِّبَاعِ المُجَرَّدِ.

أ - طَبَقَةُ الحُفَّاظِ:

هُم الَّذِينَ يَعرِفُونَ أَكثَرَ أَحكَامِ المَذهَبِ وَرِوَايَاتِهِ، وَهُم حُجَّةٌ فِي النَّقلِ لاَ فِي الاِجتِهَادِ، فَهُم حُجَّةٌ فِي نَقلِ الرِّوَايَاتِ وَبَيَانِ أَوضَحِهَا، وَنَقلِ أَقوَى الآرَاءِ تَرجِيحًا مِن غَيرِ أَن يُرَجِّحُوا. وَيَقُولُ فِيهِمُ ابنُ عَابِدِينَ: وَإِنَّهُم القَادِرُونَ عَلَى التَّميِيزِ بَينَ الأقوَى وَالقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَظَاهِرِ المَذهَبِ وَالرِّوَايَةِ النَّادِرَةِ، كَأَصحَابِ المُتُونِ المُعتَبَرَةِ كَصَاحِبِ الكَنزِ وَصَاحِبِ تَنوِيرِ الأبصَارِ وَصَاحِبِ الوِقَايَةِ وَصَاحِبِ المَجمَعِ. وَشَأنُهُم أَلاَّ يَنقُلُوا فِي كُتُبِهِم الأقوَالَ المَردُودَةَ وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا لاَ يَكُونُ عَمَلُهُم التَّرجِيحَ، وَلَكِن مَعرِفَةُ دَرَجَاتِ التَّرجِيحِ وَتَرتِيبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا قَامَ بِهِ المُرَجِّحُونَ، وَيَختَلِفُونَ حِينَئِذٍ فِي نَقلِ التَّرجِيحِ، فَقَد يَنقُلُ بَعضُهُم تَرجِيحَ رَأيٍ عَلَى رَأيٍ، وَيَنقُلُ الآخَرُ خِلاَفَ ذَلِكَ، فَيَختَارُ مِن أَقوَالِ المُرَجِّحِينَ أَقوَاهَا تَرجِيحًا وَأَكثَرَهَا اعتِمَادًا عَلَى أُصُولِ المَذهَبِ، أَو مَا يَكُونُ أَكثَرَ عَدَدًا، أَو مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ أَكثَرَ حُجِّيَّةً فِي المَذهَبِ.

وَهَؤُلاَءِ لَهُم حَقُّ الإفتَاءِ كَالسَّابِقِينَ، وَلَكِن فِي دَائِرَةٍ ضَيِّقَةٍ عَن الأوَّلِينَ. وَقَد قَالَ فِيهِمُ ابنُ عَابِدِينَ: وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَعرِفَةَ رَاجِحِ المُختَلِفِ مِن مَرجُوحِهِ وَمَرَاتِبِهِ قُوَّةً وَضَعفًا هُوَ نِهَايَةُ مَآلِ المُشَمِّرِينَ فِي تَحصِيلِ العِلمِ. فَالمَفرُوضُ عَلَى المُفتِي وَالقَاضِي التَّثَبُّتُ فِي الجَوَابِ، وَعَدَمُ المُجَازَفَةِ فِيهِ، خَوفًا مِن الاِفتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحلِيلِ حَرَامِهِ وَتَحرِيمِ ضِدِّهِ[1]. وَنَرَى أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ دِرَاسَتُهَا دِرَاسَةُ جَمعٍ وَتَصنِيفٍ وَتَرتِيبٍ لِلأقوَالِ فِي المَذهَبِ مِن حَيثُ صِحَّةُ نَقلِهَا، لاَ مِن حَيثُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا.

ب - المُتَّبِعُونَ:

نَقصِدُ بِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ غَيرَهُم فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَذهَبِ، فَيَتَّبِعُونَ مَن سَبَقَهُم فِي الاِجتِهَادِ وَفِي التَّرجِيحِ بَينَ الآرَاءِ وَفِي الاِستِدلاَلِ، وَفِي التَّرجِيحِ فِي النَّقلِ وَفِي سَلاَمَتِهِ. فَهَؤُلاَءِ لَيسَ لَهُم إِلاَّ فَهمُ الكُتُبِ الَّتِي اشتَمَلَت عَلَى التَّرجِيحِ، فَلاَ يَستَطِيعُونَ التَّرجِيحَ بَينَ الرِّوَايَاتِ، وَلَم يُؤتَوا عِلمًا كَعِلمِ المُرَجِّحِينَ فِي أَيِّ بَابٍ مِن أَبوَابِ التَّرجِيحِ وَتَميِيزِ دَرَجَاتِ التَّرجِيحِ. وَهَؤُلاَءِ قَالَ فِيهِمُ ابنُ عَابِدِينَ: لاَ يُفَرِّقُونَ بَينَ الغَثِّ وَالسَّمِينِ، وَلاَ يُمَيِّزُونَ الشِّمَالَ مِن اليَمِينِ، بَل يَجمَعُونَ مَا يَجِدُونَ كَحَاطِبِ لَيلٍ، فَالوَيلُ كُلُّ الوَيلِ لِمَن قَلَّدَهُم.

وَإِنَّ هَذَا الصِّنفَ مِن المُتَّبِعِينَ قَد كَثُرَ فِي العُصُورِ الأخِيرَةِ، فَهُم يَعكُفُونَ عَلَى عِبَارَاتِ الكُتُبِ، لاَ يَتَّجِهُونَ إِلاَّ إِلَى الاِلتِقَاطِ مِنهَا، مِن غَيرِ قَصدٍ لِتَعَرُّفِ دَلِيلِ مَا يَلتَقِطُونَ، وَيَبنُونَ عَلَيهِ، بَل يَكتُمُونَ بِأَن يَقُولُوا: هُنَاكَ قَولٌ بِهَذَا، وَإِن لَم يَكُن لَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ[2].

وَلَقَد كَانَ لِهَذَا الفَرِيقِ أَثَرَانِ مُختَلِفَانِ: أَحَدُهُمَا خَيرٌ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالقَضَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ القَضَاءُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالرَّاجِحِ مِن المَذهَبِ، فَإِنَّ هَؤُلاَءِ عَمَلُهُم الاِتِّبَاعُ لِهَذَا الرَّاجِحِ، وَفِي ذَلِكَ ضَبطٌ لِلقَضَاءِ مِن غَيرِ أَن يَكُونَ الأمرُ فُرُطًا. وَتَقيِيدُ القَضَاءِ فِي الأزمَانِ الَّتِي تَنحَرِفُ فِيهَا الأفكَارُ وَاجِبٌ، بَل إِنَّ الاِتِّبَاعَ لاَ يَكُونُ حَسَنًا إِلاَّ فِي الأحكَامِ القَضَائِيَّةِ.

الأثَرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا فِيهِ تَقدِيسٌ لأَِقوَالِ الفُقَهَاءِ السَّابِقِينَ، وَاعتِبَارُ أَقوَالِهِم حُجَّةً سَائِغَةً مِن غَيرِ نَظَرٍ إِلَى قُوَّةِ الدَّلِيلِ، وَمِقدَارِ صِلَةِ القَولِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِن غَيرِ نَظَرٍ إِلَى صَلاَحِيَتِهِ لِلتَّطبِيقِ، وَقَد اختَلَطَ الحَابِلُ بِالنَّابِلِ. وَقَد كَانَ لِهَذَا أَثَرٌ فِي البِيئَاتِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَن تَجِدَ مُسَوِّغًا لِمَا تَفعَلُ، فَيُسَارِعُ المُرَاءُونَ المُتَمَلِّقُونَ إِلَى تَبرِيرِ أَفعَالِ بَعضِ ذَوِي النُّفُوذِ، بِذِكرِ أَقوَالٍ شَاذَّةٍ، فَيَتَعَلَّقُ هَؤُلاَءِ بِأَنَّ بَعضَ العُلَمَاءِ أَجَازُوا مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ وَمَا ارتَكَبُوهُ مِن أَفعَالٍ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ وَأَيًّا كَانَت حُجَّتُهُ، بَل أَيًّا كَانَت سَلاَمَةُ نَقلِهِ أَو قُوَّتُهُ فِي المَذهَبِ الَّذِي دَوَّنَ فِي كُتُبِهِ، ثُمَّ يَنثُرُ هَؤُلاَءِ المُتَمَلِّقُونَ ذَلِكَ نَثرًا فِي المَجَالِسِ، مُبَاهَاةً بِكَثرَةِ العِلمِ. فَالوَيلُ لِهَؤُلاَءِ، وَالوَيلُ لِمَن قَلَّدَهُم، وَالوَيلُ لِمَن يَأخُذُ كَلاَمَهُم حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَالوَيلُ لِمَن يُشَجِّعُهُم[3].

 


[1] الفتاوى الخيرية 2 / 33 ط الأميرية.

[2] رسم المفتي لابن عابدين بتصرف.

[3] موسوعة الفقه الإسلامي التي أصدرتها جمعية الدراسات الإسلامية بإشراف المرحوم فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة، بتصرف 1 / 66، 62

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا