طبقات المجتهدين والفقهاء

طبقات المجتهدين والفقهاء

قَسَّمَ العُلَمَاءُ المُجتَهِدِينَ إِلَى الطَّبَقَاتِ الآتِيَةِ:

أ - المُجتَهِدُونَ الكِبَارُ: وَهُم أَصحَابُ المَذَاهِبِ المَعرُوفَةِ وَالمُندَثِرَةِ، وَكُلٌّ مِنهُم لَهُ مَنهَجُهُ الخَاصُّ فِي الاِجتِهَادِ تَأصِيلاً وَتَفرِيعًا، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحمَدَ أَصحَابِ المَذَاهِبِ الأربَعَةِ، الَّتِي يَعتَنِقُهَا الكَثرَةُ الكَاثِرَةُ مِن المُسلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الأرضِ وَمَغَارِبِهَا. وَكَانَ يُعَاصِرُ هَؤُلاَءِ أَئِمَّةٌ لاَ يَقِلُّونَ عَنهُم مَنزِلَةً، وَإِن

اندَثَرَت مَذَاهِبُهُم كَالأوزَاعِيِّ بِالشَّامِ، وَاللَّيثِ بنِ سَعدٍ بِمِصرَ، وَابنِ أَبِي لَيلَى وَالثَّورِيِّ بِالعِرَاقِ... إِلَى غَيرِ هَؤُلاَءِ مِمَّن زَخَرَت بِهِم كُتُبُ الخِلاَفِ وَالتَّفَاسِيرِ وَشُرُوحِ الأحَادِيثِ وَالآثَارِ.

ب - المُجتَهِدُونَ المُنتَسِبُونَ: وَهُم أَصحَابُ هَؤُلاَءِ الأئِمَّةِ وَتَلاَمِيذُهُم. وَهُم يَتَّفِقُونَ مَعَ إِمَامِهِم فِي القَوَاعِدِ وَالأصُولِ. وَقَد يَختَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّفرِيعِ. وَآرَاؤُهُم تُعتَبَرُ مِن المَذهَبِ الَّذِي يَنتَسِبُونَ إِلَيهِ، حَتَّى وَلَو كَانَ رَأيُهُ غَيرَ مَروِيٍّ عَن صَاحِبِ المَذهَبِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِن أَصحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ القَاسِمِ وَابنِ وَهبٍ مِن أَصحَابِ مَالِكٍ، وَكَالمُزَنِيِّ لِلشَّافِعِيِّ. أَمَّا أَصحَابُ أَحمَدَ فَكَانُوا رُوَاةً فَقَط لأَِحَادِيثِهِ وَآرَائِهِ الفِقهِيَّةِ وَلَم يُؤثَر عَن أَحَدٍ مِنهُم أَنَّهُ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي أَصلٍ أَو فَرعٍ. وَمِنهُم أَبُو بَكرٍ الأثرَمُ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِستَانِيُّ وَأَبُو إِسحَاقَ الحَربِيُّ.

ج - مُجتَهِدُو المَذَاهِبِ: وَهُم لاَ يَختَلِفُونَ مَعَ أَئِمَّتِهِم لاَ فِي الأصُولِ وَلاَ فِي الفُرُوعِ، وَلَكِن يُخَرِّجُونَ المَسَائِلَ الَّتِي لَم يَرِد عَن الإمَامِ وَأَصحَابِهِ رَأيٌ فِيهَا، مُلتَزِمِينَ مَنهَجَ الإمَامِ فِي استِنبَاطِ الأحكَامِ. وَرُبَّمَا يُخَالِفُونَ إِمَامَهُم فِي المَسَائِلِ المَبنِيَّةِ عَلَى العُرفِ. وَيُعَبِّرُونَ عَن هَذِهِ المَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَيسَت مِن قَبِيلِ اختِلاَفِ الدَّلِيلِ وَالبُرهَانِ، وَلَكِن لاِختِلاَفِ العُرفِ وَالزَّمَانِ، بِحَيثُ لَو اطَّلَعَ إِمَامُهُم عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيهِ لَذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ. وَهَؤُلاَءِ هُم الَّذِينَ يُعتَمَدُ عَلَيهِم فِي تَحقِيقِ المَذهَبِ وَتَثبِيتِ قَوَاعِدِهِ وَجَمعِ شَتَاتِهِ.

د - المُجتَهِدُونَ المُرَجِّحُونَ: وَهَؤُلاَءِ مُهِمَّتُهُم تَرجِيحُ بَعضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعضٍ، مُرَاعِينَ القَوَاعِدَ الَّتِي وَضَعَهَا المُتَقَدِّمُونَ فِي هَذَا البَابِ، وَبَعضُ العُلَمَاءِ جَعَلُوا هَاتَينِ الطَّبَقَتَينِ - ج، د - طَبَقَةً وَاحِدَةً.

هـ - طَبَقَةُ المُستَدِلِّينَ: وَهَؤُلاَءِ لاَ يَستَنبِطُونَ وَلاَ يُرَجِّحُونَ قَولاً عَلَى قَولٍ، وَلَكِن يَستَدِلُّونَ لِلأقوَالِ، وَيُبَيِّنُونَ مَا اعتَمَدَت عَلَيهِ، وَيُوَازِنُونَ بَينَ الأدِلَّةِ مِن غَيرِ تَرجِيحٍ لِلحُكمِ، وَلاَ بَيَانٍ لِمَا هُوَ أَجدَرُ بِالعَمَلِ.

 

وَأَنتَ إِذَا دَقَّقتَ النَّظَرَ رَأَيتَ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ لاَ تَقِلُّ قَدرًا عَن سَابِقَتَيهَا، إِذ لاَ يُعقَلُ أَن يَكُونَ اشتِغَالُهُم بِالاِستِدلاَلِ لِلأحكَامِ لاَ يَنتَهِي إِلَى تَرجِيحِ رَأيٍ عَلَى رَأيٍ. وَمِن هُنَا فَالأولَى أَن تَكُونَ هَذِهِ الطَّبَقَاتُ الثَّلاَثُ مُتَدَاخِلَةً.

وَمِمَّن عُدُّوا فِي هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلاَثِ كَمُجتَهِدِي مَذهَبٍ أَو مِن أَهلِ التَّرجِيحِ أَوِ المُستَدِلِّينَ، مِن الحَنَفِيَّةِ: أَبُو مَنصُورٍ المَاتُرِيدِيُّ، وَأَبُو الحَسَنِ الكَرخِيُّ، وَالجَصَّاصُ الرَّازِيُّ، وَأَبُو زَيدٍ الدَّبُوسِيُّ، وَشَمسُ الأئِمَّةِ الحَلوَانِيُّ، وَشَمسُ الأئِمَّةِ السَّرَخسِيُّ إِلَخ.

وَمِن المَالِكِيَّةِ: أَبُو سَعِيدٍ البَرَادِعِيُّ، وَاللَّخمِيُّ، وَالبَاجِيُّ، وَابنُ رُشدٍ، وَالمَازِرِيُّ، وَابنُ الحَاجِبِ، وَالقَرَافِيُّ.

وَمِن الشَّافِعِيَّةِ: أَبُو سَعِيدٍ الإصطَخرِيُّ، وَالقَفَّالُ الكَبِيرُ الشَّاشِيُّ، وَحُجَّةُ الإسلاَمِ الغَزَالِيُّ.

وَمِن الحَنَابِلَةِ: أَبُو بَكرٍ الخَلاَّلُ، وَأَبُو القَاسِمِ الخِرَقِيُّ، وَالقَاضِي أَبُو يَعلَى الكَبِيرُ.

وَبِالرُّجُوعِ إِلَى هَؤُلاَءِ المَذكُورِينَ نَجِدُ أَنَّ المُؤَرِّخِينَ اختَلَفُوا فِي تَقدِيرِهِم وَفِي طَبَقَاتِهِم، وَلَكِنَّهُم مُجمِعُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلاَءِ لَهُم قَدَمُ صِدقٍ فِي تَثبِيتِ هَذِهِ المَسَائِلِ، وَلَهُم الأثَرُ البَعِيدُ فِي بَقَائِهَا وَتَثبِيتِ أَركَانِهَا.

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا