تاريخ علم أصول الفقه
علم أصول الفقه وُلِدَ فِي القَرنِ الثَّانِي الهِجرِيِّ، وَذَهَبَ جُمهُورُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَن دَوَّنَ هَذَا العِلمَ هُوَ الإمَامُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَذَهَبَ ابنُ النَّدِيمِ فِي «الفِهرِستِ» أَنَّ أَوَّلَ مَن أَلَّفَ فِيهِ هُوَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ أَقدَمَ مُؤَلَّفٍ فِي هَذَا العِلمِ وَصَلَ إِلَينَا هُوَ رِسَالَةُ الإمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَهَذَا العِلمُ قَد بَيَّنَ القَوَاعِدَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى المُجتَهِدِ أَن يَلتَزِمَهَا فِي استِنبَاطِهِ لِلأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ سَوَاءٌ مِن الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ القِيَاسِ.
وَقَد وَضَعَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِيُبَيِّنَ مِنهَاجَهُ فِي الاِجتِهَادِ. وَكَأَيِّ عِلمٍ أَو كَائِنٍ حَيٍّ يُولَدُ صَغِيرًا ثُمَّ يَكبَرُ، فَهَذَا العِلمُ قَد أَخَذَ أَطوَارًا، وَأُدخِلَت فِيهِ مَبَاحِثُ مِن عُلُومٍ أُخرَى رَأَى المُؤَلِّفُونَ فِيهِ أَنَّ لَهَا صِلَةً بِالاِجتِهَادِ. بَل أَكثَرُ مِن هَذَا فَقَد تَنَاوَلَ هَذَا العِلمُ مَبَاحِثَ نَظَرِيَّةً بَحتَةً.
وَقَد تَقَلَّبَ هَذَا العِلمُ مَا بَينَ مَوسُوعَاتٍ وَمُختَصَرَاتٍ، سَنَتَنَاوَلُ - بِإِذنِ اللَّهِ - بَيَانَهَا بِالتَّفصِيلِ عِندَمَا نُقَدِّمُ المُلحَقَ الخَاصَّ بِعِلمِ أُصُولِ الفِقهِ.
وَلاَ يَظُنَّنَّ ظَانٌّ أَنَّ الاِجتِهَادَ قَبلَ تَدوِينِ هَذَا العِلمِ لَم يَكُن مَبنِيًّا عَلَى قَوَاعِدَ مُلتَزَمَةٍ، بَل الأمرُ بِالعَكسِ، فَقَد كَانَ المُجتَهِدُونَ مِن عَهدِ الصَّحَابَةِ إِلَى عَهدِ تَدوِينِ أُصُولِ الفِقهِ يَلتَزِمُونَ قَوَاعِدَ ثَابِتَةً، وَإِن اختَلَفَ رَأيُ فَقِيهٍ عَن فَقِيهٍ فِي بَعضِ القَوَاعِدِ فَإِنَّ اختِلاَفَهُم كَانَ مَبنِيًّا عَلَى تَحَرِّي الصَّوَابِ قَدرَ الإمكَانِ، وَالاِبتِعَادِ عَن تَحكِيمِ الهَوَى وَالقَولِ بِالتَّشَهِّي فِي الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ.
نَعَم لَم تَكُن هَذِهِ القَوَاعِدُ مُدَوَّنَةً، وَإِن كَانَت مُلتَزَمَةً، كَشَأنِ عِلمِ النَّحوِ مَثَلاً، فَقَد كَانَ العَرَبُ قَبلَ تَدوِينِهِ يَلتَزِمُونَ رَفعَ الفَاعِلِ وَنَصبَ المَفعُولِ مَثَلاً مِن غَيرِ أَن يَلتَزِمُوا تِلكَ المُصطَلَحَاتِ العِلمِيَّةَ.
وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَدوِينَ عِلمِ أُصُولِ الفِقهِ جَاءَ مُتَأَخِّرًا عَن تَدوِينِ الفِقهِ، وَإِن كَانَا - مِن حَيثُ الوُجُودُ - مُتَعَاصِرَينِ مُتَلاَزِمَينِ.
وَفِي هَذَا العَهدِ - أَيضًا - ظَهَرَ الفِقهُ الاِفتِرَاضِيُّ (التَّقدِيرِيُّ) وَقَد عَظُمَ هَذَا اللَّونُ مِن الفِقهِ فِي مَدرَسَةِ العِرَاقِ مِن قَبلِ ظُهُورِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَتَلاَمِيذِهِ، وَإِن كَانَ قَد تَزَايَدَ الاِشتِغَالُ بِهَذَا الفَنِّ فِي عَهدِهِم وَعَهدِ تَلاَمِيذِهِم.
وَكَانَ الفُقَهَاءُ - أَمَامَ هَذَا اللَّونِ مِن الفِقهِ - عَلَى ضَربَينِ: كَارِهُونَ لَهُ لأَنَّ الاِشتِغَالَ بِهِ غَيرُ مُجدٍ، وَقَد يَجُرُّ إِلَى الجَدَلِ المُفضِي إِلَى النِّزَاعِ. وَآخَرُونَ يُؤَيِّدُونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا نَعُدُّ لِكُلِّ حَادِثَةٍ حُكمَهَا حَتَّى إِذَا وَقَعَت لاَ نَتَحَيَّرُ فِي مَعرِفَةِ هَذَا الحُكمِ.
وَلِكُلِّ رَأيٍ وُجهَتُهُ وَوَجَاهَتُهُ. وَلَسنَا بِصَدَدِ المُقَارَنَةِ بَينَ الرَّأيَينِ، وَإِن كُنَّا نَرَى أَنَّ الإسرَافَ فِي هَذَا اللَّونِ مِن الفِقهِ بِافتِرَاضِ مَسَائِلَ مُستَحِيلَةِ الوُقُوعِ عَادَةً اشتِغَالٌ بِمَا لاَ يُجدِي وَعَبَثٌ، وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ العَابِثِينَ.
وَأَمَّا افتِرَاضُ مَسَائِلَ مُمكِنَةِ الوُقُوعِ وَلَكِن لَم تَقَع فَلاَ بَأسَ بِهِ، فَقَد رَأَينَا فِي كُتُبِ الفِقهِ مَسَائِلَ مَنثُورَةً كَانَ المُتَقَدِّمُونَ يَرَونَهَا مُستَحِيلَةً الوُقُوعِ قَد وَقَعَت بِالفِعلِ، كَانقِلاَبِ الجِنسِ مِن الذُّكُورَةِ إِلَى الأنُوثَةِ وَبِالعَكسِ، وَكَمَسَائِلِ التَّلقِيحِ الصِّنَاعِيِّ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِن نَقلِ الأعضَاءِ مِن المَوتَى إِلَى الأحيَاءِ، أَو مِن الأحيَاءِ بَعضِهِم لِبَعضٍ، فَإِنَّ الفِقهَ الاِفتِرَاضِيَّ فِي مِثلِ هَذِهِ المَسَائِلِ فَتَحَ لَنَا بَابًا كَانَ يَصعُبُ عَلَينَا أَن نَلِجَهُ. وَقَد مَهَّدَ الفُقَهَاءُ القُدَامَى رحمهم الله لَنَا طَرِيقًا مُستَقِيمًا.