الفقه في عَهدُ صِغَارِ التَّابِعِينَ وَكِبَارِ تَابِعِي التَّابِعِينَ
يَكَادُ هَذَا الطَّورُ يَبدَأُ فِي أَوَاخِرِ القَرنِ الأوَّلِ مِن الهِجرَةِ وَأَوَائِلِ القَرنِ الثَّانِي، وَيُمكِنُ أَن يُقَالَ: إِنَّهُ يَبدَأُ مِن عَهدِ الإمَامِ العَادِلِ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ.
وَكَمَا قُلنَا: لَيسَ هُنَاكَ حُدُودٌ زَمَنِيَّةٌ فَاصِلَةٌ بَينَ تِلكَ الأطوَارِ، فَهِيَ مُتَدَاخِلَةٌ يَتَلَقَّى الخَلَفُ مِنهَا عَن السَّلَفِ.
وَيَتَمَيَّزُ هَذَا الطَّورُ بِأَنَّهُ قَد بُدِئَ فِيهِ بِتَدوِينِ السُّنَّةِ مُختَلِطَةً بِفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَلِكَ بِأَمرٍ مِن أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ، بَعدَ أَن شَرَحَ اللَّهُ صَدرَهُ لِهَذَا، وَخَشِيَ أَن تَضِيعَ السُّنَّةُ وَأَقوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَن تُصبِحَ طَيَّ النِّسيَانِ مَعَ تَوَالِي الأزمَانِ، وَذَلِكَ بَعدَ أَن زَالَتِ العِلَّةُ الَّتِي خُشِيَ مَعَهَا أَن يَختَلِطَ القُرآنُ بِغَيرِهِ. فَقَد حُفِظَ القُرآنُ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَأَصبَحَ حَفَظَةُ القُرآنِ بِالآلاَفِ، وَلاَ يَكَادُ يُوجَدُ بَيتٌ مُسلِمٌ إِلاَّ وَفِيهِ مُصحَفٌ، فَأَمَرَ حَمَلَةَ العِلمِ فِي عَهدِهِ بِأَن يُدَوِّنُوا مَا عِندَهُم مِن سُنَّةٍ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، لِتَكُونَ مَرجِعًا يُرجَعُ إِلَيهِ، وَنَمَاذِجَ يَهتَدِي بِهَا المُجتَهِدُونَ فِي حَلِّ مَشَاكِلِ المُجتَمَعِ الإسلاَمِيِّ المُتَطَوِّرِ الَّذِي تَتَوَالَى فِيهِ الأحدَاثُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ أَحكَامَهَا الشَّرعِيَّةَ.
وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ زَيفُ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ بَعضُ المُستَشرِقِينَ مِن أَنَّ تَدوِين السُّنَّةِ كَانَ لِتَبرِيرِ الآرَاءِ الفِقهِيَّةِ، إِذ التَّارِيخُ يَشهَدُ بِأَنَّ الآرَاءَ الفِقهِيَّةَ وَالسُّنَّةَ دُوِّنَتَا فِي عَهدٍ وَاحِدٍ، وَبَذَلَ العُلَمَاءُ فِي جَمعِهَا جُهدًا لَم تَبذُلهُ أُمَّةٌ فِي تَنقِيحِ الرِّوَايَةِ وَالتَّثَبُّتِ مِن صِحَّتِهَا.
وَإِذَا كَانَ العُلَمَاءُ فِي هَذَا العَهدِ قَد بَدَءُوا يَتَخَصَّصُونَ فِي مَنَاهِجِهِم وَاتِّجَاهَاتِهِم العِلمِيَّةِ، فَمِنهُم المُتَخَصِّصُ لِجَمعِ اللُّغَةِ، وَمِنهُم المُتَخَصِّصُ فِي آدَابِهَا وَتَارِيخِهَا، وَمِنهُم مَن اتَّجَهَ إِلَى الاِشتِغَالِ بِالمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ المُتَّصِلَةِ بِالعَقِيدَةِ، كَالتَّحسِينِ وَالتَّقبِيحِ العَقلِيَّينِ، وَرُؤيَةِ اللَّهِ وَغَيرِ ذَلِكَ، فَإِنَّنَا نَرَى أَنَّ المُشتَغِلِينَ بِالفِقهِ - فِي هَذَا العَهدِ - كَانُوا يُعتَبَرُونَ مِن حَمَلَةِ السُّنَّةِ، وَمُفَسَّرِي القُرآنِ الكَرِيمِ، مَعَ إِحَاطَتِهِم بِأَسرَارِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِالقَدرِ الَّذِي يُسَاعِدُهُم عَلَى استِنبَاطِ الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ مِن القُرآنِ وَالسُّنَّةِ. وَلِهَذَا كَانَت مَنزِلَةُ الفُقَهَاءِ فِي هَذَا العَهدِ مَنزِلَةً مَرمُوقَةً يَحسِبُ لَهَا الحُكَّامُ أَلفَ حِسَابٍ، كَمَا أَنَّ العَامَّةَ كَانُوا يُقَدِّرُونَهُم حَقَّ قَدرِهِم، وَيَرجِعُونَ إِلَيهِم فِي حَلِّ مَشَاكِلِهِم، وَيَعتَبِرُونَهُم مَصَابِيحَ هَذِهِ الأمَّةِ، بِصَرفِ النَّظَرِ عَن مَرَاكِزِهِم السِّيَاسِيَّةِ فِي الدَّولَةِ. نَذكُرُ مِن ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ لاَ الحَصرِ: الزُّهرِيَّ وَحَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ شَيخَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الطَّورِ بَدَأَت تَظهَرُ المَذَاهِبُ الفِقهِيَّةُ المُتَمَيِّزَةُ. كَمَا أَنَّ هَذَا الطَّورَ شَهِدَ تَطَوُّرَ التَّدوِينِ، فَبَعدَ أَن كَانَ التَّدوِينُ مُختَلِطًا بَدَأَ يَأخُذُ طَرِيقَ التَّنظِيمِ، وَكَانَ هَذَا الطَّورُ تَمهِيدًا لِلطَّورِ الخَامِسِ، وَهُوَ طَورُ الأئِمَّةِ العِظَامِ.