الفرق بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي
يَقُولُ بَعضُ المُتَعَصِّبِينَ لِلفِقهِ الوَضعِيِّ: إِنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ مَا هُوَ إِلاَّ آرَاءٌ لِبَعضِ العُلَمَاءِ وَلاَ يُعتَبَرُ الخُرُوجُ عَلَيهِ خُرُوجًا عَلَى الشَّرِيعَةِ، كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ لَم يُعَالِج مَشَاكِلَ العَصرِ وَمَا جَدَّ مِن أَحدَاثٍ. بَل يَتَجَرَّأُ البَعضُ وَيَقُولُ: إِنَّهُ أَصبَحَ تَارِيخًا، كَتَشرِيعِ الآشُورِيِّينَ وَقُدَمَاءِ المِصرِيِّينَ وَغَيرِهِم مِنَ الأمَمِ البَائِدَةِ.
وَنَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوفِيقُ -: إِنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ وَإِن كَانَ مَجمُوعَةَ آرَاءٍ لِبَعضِ العُلَمَاءِ، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الآرَاءَ لاَ بُدَّ أَن تَكُونَ مُعتَمِدَةً عَلَى نَصٍّ شَرعِيٍّ مِن كِتَابِ اللَّهِ أَو سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّ الآرَاءَ المُعتَمِدَةَ عَلَى الإجمَاعِ وَالقِيَاسِ وَغَيرِهَا مِنَ الأدِلَّةِ المُسَانِدَةِ لاَ بُدَّ أَن تَرجِعَ - أَخِيرًا - إِلَى كِتَابِ اللَّهِ أَو سُنَّةِ رَسُولِهِ. فَالإجمَاعُ - مَثَلاً - لاَ بُدَّ أَن يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ مِن نَصٍّ قُرآنِيٍّ أَو سُنَّةٍ مَقبُولَةٍ، وَهُوَ مَا يُعرَفُ عِندَهُم بِسَنَدِ الإجمَاعِ. وَقَد يَكُونُ هَذَا السَّنَدُ ظَنِّيَّ الدَّلاَلَةِ، وَلَكِنَّ اجتِمَاعَ آرَاءِ المُجتَهِدِينَ عَلَى رَأيٍ وَاحِدٍ يَرفَعُهُ مِنَ الظَّنِّيَّةِ إِلَى القَطعِيَّةِ. وَالأحكَامُ النَّابِعَةُ مِنَ القِيَاسِ لاَ بُدَّ أَن تَرجِعَ إِلَى أَصلٍ مِن الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ؛ لأَنَّ القِيَاسَ - كَمَا عَرَّفُوهُ - هُوَ إِلحَاقُ مَسأَلَةٍ لَم يَرِد فِيهَا نَصٌّ بِمَسأَلَةٍ أُخرَى وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ لإِثبَاتِ حُكمٍ شَرعِيٍّ، لِجَامِعٍ بَينَهَا، وَهَذَا الجَامِعُ هُوَ العِلَّةُ، كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ مُفَصَّلاً إِن شَاءَ اللَّهُ فِي المُلحَقِ الأصُولِيِّ، وَالمَسَائِلُ الَّتِي بُنِيَت عَلَى الاِستِصلاَحِ، وَهِيَ مَا تُعرَفُ بِالمَصَالِحِ المُرسَلَةِ، لاَ بُدَّ أَن تَكُونَ تِلكَ المَصلَحَةُ لَم يُلغِهَا الشَّارِعُ، بَل لاَ بُدَّ أَن يَعتَبِرَهَا الشَّارِعُ وَلَو بِأَيِّ وَجهٍ مِن وُجُوهِ الاِعتِبَارِ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ حُكمٍ.
وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ وَجهَ القَدَاسَةِ فِي الفِقهِ الإسلاَمِيِّ هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَصَادِرِهِ، وَلِذَا رَأَينَا الفُقَهَاءَ - عَلَى مَدَى العُصُورِ - يَرفُضُونَ كُلَّ رَأيٍ لاَ تَشهَدُ لَهُ الشَّرِيعَةُ مَهمَا كَانَ قَائِلُهُ، فَأَينَ هَذَا مِنَ الفِقهِ الوَضعِيِّ الَّذِي بُنِيَت أَكثَرُ أَحكَامِهِ عَلَى الأهوَاءِ وَالأغرَاضِ وَتَرضِيَةِ أَصحَابِ النُّفُوذِ، وَالَّذِي يَلبَسُ فِي كُلِّ حِينٍ لِبَاسًا جَدِيدًا.
أَمَّا دَعوَى أَنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ لَم يُعَالِج مَشَاكِلَ العَصرِ فَهَذِهِ دَعوَى كَذَّبَهَا التَّارِيخُ، لأَنَّ هَذَا الفِقهَ حَكَمَت بِهِ دُوَلٌ وَشُعُوبٌ مُختَلِفَةٌ عَلَى مَدَى ثَلاَثَةَ عَشَرَ قَرنًا، فَكَانَ فِيهِ لِكُلِّ مُشكِلَةٍ حَلٌّ، حَتَّى فِي عَهدِ التَّقلِيدِ وَالجُمُودِ، فَقَد رَأَينَا فِي كُلِّ عَصرٍ مُفتِينَ وَعُلَمَاءَ وَجَدُوا فِي هَذَا الفِقهِ حَلًّا لِمَشَاكِلِ هَذِهِ المُجتَمَعَاتِ المُختَلِفَةِ.
وَلَولاَ إِبعَادُ هَذَا الفِقهِ - عَن قَصدٍ أَو غَيرِ قَصدٍ - عَن مَجَالاَتِ الحَيَاةِ أَو أَكثَرِهَا لَوَجَدنَاهُ مُسَايِرًا لِكُلِّ عَصرٍ، حَلاَّلاً لِكُلِّ مُشكِلَةٍ، فَإِنَّ الفِقهَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ العِلمُ بِالأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ الفَرعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُستَنبَطَةِ مِنَ الأدِلَّةِ التَّفصِيلِيَّةِ. فَهَذَا
التَّعرِيفُ يُوحِي بِأَنَّ لِكُلِّ فِعلٍ يَصدُرُ مِنَ الإنسَانِ حُكمًا شَرعِيًّا، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالعِبَادَاتِ أَوِ المُعَامَلاَتِ أَو أَحكَامِ الأسرَةِ أَوِ القَضَاءِ أَوِ السِّلمِ أَوِ الحَربِ، فَكَيفَ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الفِقهَ عَاجِزٌ عَن عِلاَجِ مَشَاكِلِ المُجتَمَعِ الجَدِيدِ. فَلَيسَ العَيبُ فِي الفِقهِ الإسلاَمِيِّ، إِنَّمَا العَيبُ فِي عَدَمِ تَطبِيقِهِ.
فَإِن كَانَ الغَرَضُ مِن قَولِهِم: إِنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ قَاصِرٌ عَن مُجَارَاةِ مَشَاكِلِ العَصرِ، أَنَّهُ لاَ يَستَجِيبُ لِلأهوَاءِ الجَامِحَةِ، فَنَحنُ مَعَهُم؛ لأَنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ لَهُ أَن يُقِيمَ بِهِ أُمَّةً تَسِيرُ عَلَى الجَادَّةِ الوَاضِحَةِ وَالمَحَجَّةِ البَيضَاءِ، لَيلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ أَن يَكُونَ مَطِيَّةً لِذَوِي الأهوَاءِ، يُحِلُّونَ هَذَا الشَّيءَ حِينًا وَيُحَرِّمُونَهُ حِينًا.
أَمَّا قَولُهُم: إِنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ قَد أَصبَحَ تَارِيخًا، فَهَذَا القَولُ لاَ يُعَبِّرُ بِهِ قَائِلُهُ إِلاَّ عَن هَوًى فِي نَفسِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مُخلِفٌ ظَنَّهُ، فَقَد رَأَينَا الكَثرَةَ الكَثِيرَةَ مِنَ الشُّعُوبِ الإسلاَمِيَّةِ تُنَادِي بِوُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ المُتَمَثِّلَةِ فِي الفِقهِ الإسلاَمِيِّ. وَالَّذِي سَيُصبِحُ تَارِيخًا - إِن شَاءَ اللَّهُ - هُوَ الفِقهُ الوَضعِيُّ الَّذِي لَم يَطُل أَمَدُهُ فِي البِلاَدِ الإسلاَمِيَّةِ إِلاَّ قَرنًا أَو أَقَلَّ مِن قَرنٍ، وَمَعَ هَذَا فَقَد ضَاقَت بِهِ النُّفُوسُ، وَلَم يَبقَ مُتَعَلِّقًا بِهِ إِلاَّ شِرذِمَةٌ تَرَى أَنَّ حَيَاتَهَا مُرتَبِطَةٌ بِحَيَاتِهِ، وَسَعَةَ أَرزَاقِهَا مَنُوطَةٌ بِبَقَائِهِ. وَلَكِنَّ اللَّهَ سَيُظهِرُ دِينَهُ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ.
هُنَاكَ فَرقٌ وَاضِحٌ بَينَ الفِقهِ الإسلاَمِيِّ وَالفِقهِ الوَضعِيِّ، فَإِنَّ الفِقهَ الإسلاَمِيَّ يَربِطُ دَائِمًا بَينَ الجَزَاءِ الدُّنيَوِيِّ وَالجَزَاءِ الأخرَوِيِّ. فَلَيسَ مَعنَى انفِلاَتِ الشَّخصِ مِنَ الجَزَاءِ الدُّنيَوِيِّ انفِلاَتَهُ مِن الجَزَاءِ الأخرَوِيِّ. وَفِي كُلِّ مَسأَلَةٍ فِي الفِقهِ نَجِدُ أَنَّ الفُقَهَاءَ تَكَلَّمُوا عَلَى الحُكمِ التَّكلِيفِيِّ لِهَذَا الأمرِ أَحَلاَلٌ هُوَ أَم حَرَامٌ؟ أَفَرضٌ هُوَ أَم مَندُوبٌ؟ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى أَحكَامِهِ الوَضعِيَّةِ أَصَحِيحٌ هُوَ أَم غَيرُ صَحِيحٍ؟ أَنَافِذٌ هَذَا التَّصَرُّفُ أَم غَيرُ نَافِذٍ؟ وَلِذَا رَأَينَا المُتَدَيِّنِينَ لاَ يَهُمُّهُم أَن يَكسِبُوا قَضِيَّةً أَمَامَ القَضَاءِ إِلاَّ إِذَا ارتَاحَت ضَمَائِرُهُم أَنَّ هَذَا الحَقَّ الَّذِي أَثبَتَهُ لَهُمُ القَضَاءُ حَقٌّ مَشرُوعٌ، بَينَمَا المُشتَغِلُونَ بِالفِقهِ الوَضعِيِّ لاَ يَهُمُّهُم إِلاَّ الحُكمُ الدُّنيَوِيُّ حَتَّى وَلَو رَفَضَهُ الشَّرعُ، وَلِذَا يَتَفَنَّنُونَ فِي الحِيَلِ الَّتِي يَكسِبُونَ بِهَا هَذَا الحَقَّ الدُّنيَوِيَّ.