تعريف الاجتهاد لغة واصطلاحا
الاِجتِهَادُ لُغَةً مَأخُوذٌ مِنَ الجَهدِ، وَهُوَ المَشَقَّةُ أَوِ الوُسعُ أَوِ الطَّاقَةُ. قَالَ فِي القَامُوسِ: الجَهدُ: الطَّاقَةُ وَالمَشَقَّةُ... إِلَى أَن قَالَ: وَالتَّجَاهُدُ بَذلُ الجَهدِ كَالاِجتِهَادِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعرِفَةِ حُكمٍ شَرعِيٍّ اعتِقَادِيٍّ أَو عَمَلِيٍّ، أَو مَعرِفَةِ حُكمٍ لُغَوِيٍّ أَو مَسأَلَةٍ عَقلِيَّةٍ، أَو كَانَ فِي أَمرٍ مَحسُوسٍ كَحَملِ شَيءٍ، وَلاَ يُقَالُ: اجتَهَدَ فِي حَملِ وَردَةٍ.
وَأَمَّا الاِجتِهَادُ عِندَ عُلَمَاءِ الفِقهِ أَوِ الأصُولِ فَقَد عَرَّفُوهُ بِتَعَارِيفَ مُتَقَارِبَةٍ فِي أَلفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا. وَإِذَا كَانَ قَد أُورِدَ عَلَى بَعضِ هَذِهِ التَّعَارِيفِ اعتِرَاضَاتٌ تَرجِعُ إِلَى الصِّنَاعَةِ اللَّفظِيَّةِ، فَكُلُّهَا تَدُورُ حَولَ بَذلِ الجَهدِ وَالطَّاقَةِ لِمَعرِفَةِ الحُكمِ الشَّرعِيِّ
مِن دَلِيلِهِ. وَأَدَقُّ مَا قِيلَ فِي تَعرِيفِهِ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ:[1] «إِنَّ الاِجتِهَادَ هُوَ بَذلُ الطَّاقَةِ مِنَ الفَقِيهِ فِي تَحصِيلِ حُكمٍ شَرعِيٍّ ظَنِّيٍّ».
وَمِن هُنَا يَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّ الاِجتِهَادَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي المَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ. وَهُوَ بِهَذَا المَعنَى يَتَّفِقُ مَعَ الفِقهِ فِي أَكثَرِ مَسَائِلِهِ، وَإِن كَانَ الفِقهُ يَتَنَاوَلُ بِالمَعنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيهِ الفُقَهَاءُ الأحكَامَ القَطعِيَّةَ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الأفعَالَ، كَقَولِهِم: الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ. وَبَيَانُ مَسَائِلِ الاِجتِهَادِ بِالتَّفصِيلِ سَتَكُونُ إِن شَاءَ اللَّهُ فِي المُلحَقِ الأصُولِيِّ لِهَذِهِ المَوسُوعَةِ.
يَثُورُ بِمُنَاسَبَةِ الحَدِيثِ عَنِ الأحكَامِ الظَّنِّيَّةِ الاِجتِهَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ اختِلاَفِ الفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا تَسَاؤُلٌ حَاصِلُهُ: أَمَا كَانَ الأجدَرُ أَن تَأتِيَ النُّصُوصُ وَالأدِلَّةُ قَطعِيَّةً حَتَّى لاَ يُفتَحَ بَابُ الاِختِلاَفِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ الخِلاَفِ وَالشِّقَاقِ بَينَ أَهلِ المِلَّةِ الوَاحِدَةِ، حَتَّى استَبَاحَ بَعضُهُم دَمَ بَعضٍ؟!! فَنَقُولُ، وَبِاللَّهِ التَّوفِيقُ:
إِنَّ الأحكَامَ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ الدِّينِ سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ مِنهَا بِالعَقِيدَةِ أَوِ الأمُورِ العَمَلِيَّةِ قَد وَرَدَت فِي آيَاتٍ مُحكَمَةٍ لاَ تَحتَمِلُ التَّأوِيلَ وَلاَ تُثِيرُ الاِختِلاَفَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ أَن تَكُونَ هَذِهِ الأمُورُ ثَابِتَةً عَلَى مَرِّ العُصُورِ، كَأَكثَرِ أَحكَامِ المَوَارِيثِ وَأُصُولِ أَحكَامِ الأحوَالِ الشَّخصِيَّةِ، وَآيَاتِ الحُدُودِ وَالقِصَاصِ.
أَمَّا المَسَائِلُ القَابِلَةُ لِلتَّطَوُّرِ فَقَد جَاءَ القُرآنُ الكَرِيمُ فِي شَأنِهَا مُوَضِّحًا الخُطُوطَ الرَّئِيسَةَ، وَكَانَت مَحَلًّا لاِختِلاَفِ الأنظَارِ. وَاختِلاَفُ النَّظَرِ - إِذَا لَم يَكُن مَبنِيًّا عَلَى الهَوَى وَالتَّشَهِّي - فَهُوَ رَحمَةٌ لِلأمَّةِ، فَقَدِيمًا اختَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ المَسَائِلِ، وَلَم يَكُن هَذَا الاِختِلاَفُ سَبَبًا لِلمُنَازَعَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي بَعضُهُم خَلفَ بَعضٍ مِن غَيرِ نَكِيرٍ؛ لأَنَّ كُلًّا مِنهُم كَانَ يَرَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيهِ هُوَ الصَّوَابُ مَعَ احتِمَالِ الخَطَأِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيهِ غَيرُهُ خَطَأٌ مَعَ احتِمَالِ الصَّوَابِ. فَلَمَّا نَجَمَتِ الفِتنَةُ تَحَكَّمَتِ الأهوَاءُ، فَكَانَ الاِختِلاَفُ فِي الرَّأيِ سَبَبًا لِلشِّقَاقِ.
وَالمُتَتَبِّعُ لِسُنَّةِ اللَّهِ فِي خَلقِهِ سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالتَّشرِيعِ أَوِ الإبدَاعِ يَجِدُ أَنَّهُ مَا مِن خَيرٍ إِلاَّ وَيَشُوبُهُ بَعضُ الشَّرِّ. وَالَّذِي يُقَارِنُ بَينَ الخَيرِ فِي وُجُودِ الظَّنِّيِّ مِنَ النُّصُوصِ الَّذِي هُوَ مَثَارُ اختِلاَفِ الأنظَارِ، وَمَا قَد يَشُوبُهُ مِن شَرٍّ، يُدرِكُ أَنَّ الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ فِيمَا وَقَعَ، فَإِنَّ جُمُودَ الأفكَارِ - لَو جَاءَتِ النُّصُوصُ كُلُّهَا قَطعِيَّةً - يَكُونُ بَلاَءً دُونَهُ كُلُّ بَلاَءٍ.
وَالتَّارِيخُ شَهِدَ بِصِدقِ هَذَا، فَإِنَّ الآرَاءَ المَبنِيَّةَ عَلَى الهَوَى، وَالَّتِي نَجَمَ عَنهَا مَا نَجَمَ مِن فِتَنٍ، قَدِ اندَثَرَت آثَارُهَا، وَلَم يَبقَ لَهَا إِلاَّ آثَارٌ فِي بُطُونِ الكُتُبِ، نَقَلَهَا النَّاقِلُونَ لِتَشهَدَ لِهَذِهِ الأمَّةِ عَلَى سَعَةِ صَدرِهَا، وَحُرِّيَّةِ الرَّأيِ فِيهَا، وَلَكِنَّهَا ذَهَبَت كَغُثَاءِ السَّيلِ، وَانطَفَأَت كَوَمِيضِ البَرقِ: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأرضِ”[2]. عَلَى أَنَّهُ لَو جَاءَتِ النُّصُوصُ الشَّرعِيَّةُ كُلُّهَا قَطعِيَّةً لَقَالَ قَائِلُهُم: هَلاَّ كَانَ لَنَا مَجَالٌ لِلاِجتِهَادِ حَتَّى لاَ تَجمُدَ عُقُولُنَا، وَنُصبِحَ أَمَامَ نُصُوصٍ جَامِدَةٍ؟.
[1] هو محب الله بن عبد الشكور البهاري، من علماء الهند المتوفى سنة 1119 هـ وسنة 1707 م. ويعتبر هذا الكتاب خاتمة ما كتب قديما في علم أصول الفقه. وقد جمع بين الطريقتين المشهورتين في تدوين هذا العلم، وهما طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية 2 / 362.