تعريف الفقه عند الأصوليين
الفِقهُ فِي اصطِلاَحِ الأصُولِيِّينَ أَخَذَ أَطوَارًا ثَلاَثَةً:
الطَّورُ الأوَّلُ: أَنَّ الفِقهَ مُرَادِفٌ لِلَفظِ الشَّرعِ، فَهُوَ مَعرِفَةُ كُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالعَقِيدَةِ أَوِ الأخلاَقِ أَو أَفعَالِ الجَوَارِحِ. وَمِن ذَلِكَ مَا عَرَّفَهُ الإمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رحمه الله -: «هُوَ مَعرِفَةُ النَّفسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيهَا». وَلِهَذَا سَمَّى كِتَابَهُ فِي العَقَائِدِ: «الفِقهَ الأكبَرَ».
الطَّورُ الثَّانِي: وَقَد دَخَلَهُ بَعضُ التَّخصِيصِ، فَاستُبعِدَ عِلمُ العَقَائِدِ، وَجُعِلَ عِلمًا مُستَقِلًّا سُمِّيَ بِعِلمِ التَّوحِيدِ أَو عِلمِ الكَلاَمِ أَو عِلمِ العَقَائِدِ. وَعُرِفَ الفِقهُ فِي هَذَا الطَّورِ بِأَنَّهُ العِلمُ بِالأحكَامِ الفَرعِيَّةِ الشَّرعِيَّةِ المُستَمَدَّةِ مِنَ الأدِلَّةِ التَّفصِيلِيَّةِ.
وَالمُرَادُ بِالفَرعِيَّةِ مَا سِوَى الأصلِيَّةِ الَّتِي هِيَ العَقَائِدُ؛ لأَِنَّهَا هِيَ أَصلُ الشَّرِيعَةِ، وَالَّتِي يَنبَنِي عَلَيهَا كُلُّ شَيءٍ. وَهَذَا التَّعرِيفُ يَتَنَاوَلُ الأحكَامَ الشَّرعِيَّةَ العَمَلِيَّةَ الَّتِي تَتَّصِلُ بِأَفعَالِ الجَوَارِحِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الأحكَامَ الشَّرعِيَّةَ الفَرعِيَّةَ القَلبِيَّةَ كَحُرمَةِ الرِّيَاءِ وَالكِبرِ وَالحَسَدِ وَالعُجبِ، وَكَحِلِّ التَّوَاضُعِ وَحُبِّ الخَيرِ لِلغَيرِ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأحكَامِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالأخلاَقِ.
الطَّورُ الثَّالِثُ: - وَهُوَ الَّذِي استَقَرَّ عَلَيهِ رَأيُ العُلَمَاءِ إِلَى يَومِنَا هَذَا - أَنَّ
الفِقهَ هُوَ العِلمُ بِالأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ الفَرعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُستَمَدَّةِ مِن الأدِلَّةِ التَّفصِيلِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَالأحكَامُ الشَّرعِيَّةُ الفَرعِيَّةُ المُتَّصِلَةُ بِأَعمَالِ القَلبِ أُفرِدَ لَهَا عِلمٌ خَاصٌّ عُرِفَ بِاسمِ عِلمِ التَّصَوُّفِ أَوِ الأخلاَقِ.
يَتَّضِحُ مِنَ التَّعرِيفِ الأخِيرِ أُمُورٌ لاَ بُدَّ مِنَ التَّنبِيهِ عَلَيهَا وَهِيَ:
- أَنَّ العِلمَ بِالذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ لَيسَ فِقهًا؛ لأَِنَّهُ لَيسَ عِلمًا بِالأحكَامِ.
- وَالعِلمُ بِالأحكَامِ العَقلِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَالوَضعِيَّةِ (أَيِ الَّتِي تَوَاضَعَ أَهلُ كُلِّ عِلمٍ أَو فَنٍّ عَلَيهَا) لَيسَ فِقهًا أَيضًا؛ لأَِنَّهَا لَيسَت عِلمًا بِالأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ.
- وَالعِلمُ بِالأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ الاِعتِقَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ، أَوِ الأحكَامُ الشَّرعِيَّةُ القَلبِيَّةُ الَّتِي تَرجِعُ إِلَى أَعمَالِ القُلُوبِ، كَحُرمَةِ الحِقدِ وَالحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالكِبرِ وَوُجُوبِ مَحَبَّةِ الخَيرِ لِلغَيرِ - لَيسَت مِنَ الفِقهِ فِي اصطِلاَحِ هَؤُلاَءِ، وَكَذَا العِلمُ بِالأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ الَّتِي يَشتَمِلُ عَلَيهَا عِلمُ أُصُولِ الفِقهِ كَوُجُوبِ العَمَلِ بِخَبَرِ الآحَادِ، أَو وُجُوبِ التَّقَيُّدِ بِالقِيَاسِ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا لَم تَكُن هَذِهِ مِنَ الفِقهِ لأَِنَّهَا لَيسَت أَحكَامًا عَمَلِيَّةً، بَل هِيَ أَحكَامٌ عِلمِيَّةٌ قَلبِيَّةٌ أَو أُصُولِيَّةٌ.
- وَعِلمُ جِبرِيلَ عليه السلام، وَعِلمُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا طَرِيقُهُ الوَحيُ، لَيسَ فِقهًا؛ لأَِنَّهُ غَيرُ مُستَفَادٍ بِطَرِيقِ الاِستِنبَاطِ وَالاِستِدلاَلِ، بَل بِطَرِيقِ الكَشفِ وَالوَحيِ. أَمَّا عِلمُهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا طَرِيقُهُ الاِجتِهَادُ فَلاَ يُستَبعَدُ أَن يُسَمَّى اجتِهَادًا.
- وَكَذَلِكَ العِلمُ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَصَومِ رَمَضَانَ وَالحَجِّ عَلَى المُستَطِيعِ، وَكَحُرمَةِ الرِّبَا وَالزِّنَى وَشُربِ الخَمرِ وَالمَيسِرِ، لَيسَ فِقهًا؛ لأَِنَّهُ غَيرُ حَاصِلٍ بِالاِستِنبَاطِ بَل بِالضَّرُورَةِ، بِدَلِيلِ حُصُولِهِ لِلعَوَامِّ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبيَانِ المُمَيِّزِينَ وَكُلِّ مَن نَشَأَ فِي دَارِ الإسلاَمِ. وَلاَ يُستَبعَدُ أَن تَكُونَ هَذِهِ الأحكَامُ مِن قَبِيلِ عِلمِ العَقَائِدِ؛ لأَِنَّ مَن أَنكَرَ شَيئًا مِن ذَلِكَ حُكِمَ عَلَيهِ بِالكُفرِ.
- وَلَيسَ مِنَ الفِقهِ كَذَلِكَ مَعرِفَةُ العُلَمَاءِ لِلأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ الفَرعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ بِطَرِيقِ التَّقلِيدِ، كَمَعرِفَةِ الحَنَفِيِّ فَرضِيَّةَ مَسحِ رُبُعِ الرَّأسِ، وَوُجُوبَ صَلاَةِ الوِترِ وَالعِيدَينِ، وَكَنَقضِ الوُضُوءِ بِسَيَلاَنِ الدَّمِ وَالقَيحِ عَن مَحَلِّهِمَا، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأحكَامِ، وَكَمَعرِفَةِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ الاِكتِفَاءِ بِمَسحِ بَعضِ الرَّأسِ فِي الوُضُوءِ، وَكَمَعرِفَتِهِ أَنَّ الوُضُوءَ يُنقَضُ بِمَسِّ المَرأَةِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ مُطلَقًا، وَكَعِلمِهِ بِوُجُوبِ الوَلِيِّ وَالشَّاهِدَينِ فِي عَقدِ النِّكَاحِ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبسُوطٌ فِي كُتُبِ الفُرُوعِ. فَكُلُّ هَذِهِ الأحكَامِ حَاصِلَةٌ عِندَ المُتَفَقِّهِينَ، لاَ بِطَرِيقِ الاِستِنبَاطِ، وَإِنَّمَا بِطَرِيقِ التَّقلِيدِ.
- وَمِن هَذَا التَّعرِيفِ نَعلَمُ أَنَّ وَصفَ الفَقِيهِ لاَ يُطلَقُ عِندَ الأصُولِيِّينَ عَلَى المُقَلِّدِ مَهمَا كَانَ عِندَهُ مِن عِلمِ الفِقهِ وَإِحَاطَتِهِ بِفُرُوعِهِ، بَلِ الفَقِيهُ عِندَهُم مَن كَانَت لَهُ مَلَكَةُ الاِستِنبَاطِ وَيَستَطِيعُ أَن يَستَنبِطَ الأحكَامَ مِن أَدِلَّتِهَا التَّفصِيلِيَّةِ. وَلَيسَ مِن الضَّرُورِيِّ أَن يَكُونَ مُحِيطًا بِجَمِيعِ أَحكَامِ الفُرُوعِ، بَل يَكفِي أَن يَكُونَ عِندَهُ مَلَكَةُ الاِستِنبَاطِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ أَكثَرَ الأئِمَّةِ المَعرُوفِينَ تَوَقَّفُوا فِي بَعضِ المَسَائِلِ، إِمَّا لِتَعَارُضِ الأدِلَّةِ عِندَهُم تَعَارُضًا يَصعُبُ مَعَهُ تَرجِيحُ دَلِيلٍ عَلَى دَلِيلٍ، أَو لَم تَصِل إِلَيهِم أَدِلَّةٌ عَلَى هَذِهِ المَسَائِلِ الَّتِي تَوَقَّفُوا فِيهَا.