حفر الآبار في الفقه الإسلامي

حَفرُ الآبَارِ لإِحيَاءِ المَوَاتِ وَتَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَائِهَا

أَوَّلاً: حَفرُ البِئرِ لإِحيَاءِ المَوَاتِ:

حَفرُ البِئرِ وَخُرُوجُ المَاءِ مِنهَا طَرِيقٌ مِن طُرُقِ الإحيَاءِ. وَقَد أَجمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَّ تَفجِيرُ المَاءِ وَالاِنتِفَاعُ بِهِ فِي الإنبَاتِ، مَعَ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، يَتِمُّ بِهِ الإحيَاءُ. وَذَهَبَ جُمهُورُ الفُقَهَاءِ (المَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ تَفجِيرَ المَاءِ يَتِمُّ بِهِ الإحيَاءُ فِي الجُملَةِ، غَيرَ أَنَّ المَالِكِيَّةَ يَشتَرِطُونَ إِعلاَنَ النِّيَّةِ إِذَا كَانَتِ البِئرُ بِئرَ مَاشِيَةٍ. وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ يَشتَرِطُونَ الغَرسَ إِذَا كَانَتِ البِئرُ لِبُستَانٍ، كَمَا يَشتَرِطُونَ نِيَّةَ التَّمَلُّكِ. وَاشتَرَطَ بَعضُهُم طَيَّهَا (أَي بِنَاءَ جُدرَانِهَا) إِذَا كَانَت فِي أَرضٍ رَخوَةٍ أَمَّا الحَنَفِيَّةُ فَيَرَونَ أَنَّ الإحيَاءَ لاَ يَتِمُّ بِتَفجِيرِ المَاءِ وَحدَهُ، وَإِنَّمَا بِالحَفرِ وَسَقيِ الأرضِ[1].

وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ لِلبِئرِ فِي الأرضِ المَوَاتِ حَرِيمًا، لِحَاجَةِ الحَفرِ وَالاِنتِفَاعِ، حَتَّى لَو أَرَادَ أَحَدٌ أَن يَحفِرَ بِئرًا فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَن يَمنَعَهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلبِئرِ حَرِيمًا[2]. وَاختَلَفُوا فِي المِقدَارِ الَّذِي يُعتَبَرُ حَرِيمًا، فَحَدَّدَهُ الحَنَفِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ بِالأذرُعِ حَسَبَ نَوعِ البِئرِ. وَيَستَنِدُ المَذهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ مِن أَخبَارٍ. أَمَّا المَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدَّرُوهُ بِمَا لاَ يَضِيقُ عَلَى الوَارِدِ، وَلاَ عَلَى مُنَاخِ إِبِلِهَا، وَلاَ مَرَابِضِ مَوَاشِيهَا عِندَ الوُرُودِ، وَلاَ يَضُرُّ بِمَاءِ البِئرِ[3]. وَتَفصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصطَلَحِ «إِحيَاءِ المَوَاتِ».

ثَانِيًا: تَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَاءِ الآبَارِ:

الأصلُ فِي هَذِهِ المَسأَلَةِ مَا رَوَاهُ الخَلاَّلُ عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِن أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: المَاءِ وَالكَلإَِ وَالنَّارِ»[4]. كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَن بَيعِ المَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ مِنهُ»[5]. وَالاِستِثنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِالمَاءِ فِي الحَدِيثِ الأوَّلِ غَيرُ المُحرَزِ.

وَعَلَى هَذَا فَمِيَاهُ الآبَارِ العَامَّةِ مُبَاحَةٌ وَلاَ مِلكَ فِيهَا لأَِحَدٍ إِلاَّ بِالاِغتِرَافِ. وَأَمَّا مِيَاهُ الآبَارِ الخَاصَّةِ فَإِنَّهَا خَرَجَت عَن الإبَاحَةِ العَامَّةِ. وَلَمَّا كَانَت حَاجَةُ الإنسَانِ إِلَى المَاءِ لِشُربِهِ وَشُربِ حَيَوَانِهِ مِمَّا يُسَمِّيهِ الفُقَهَاءُ بِحَقِّ الشَّفَةِ[6] مَاسَّةً وَمُتَكَرِّرَةً، كَمَا أَنَّ أَصلَ المَاءِ قَبلَ جَرَيَانِهِ فِي المِلكِ الخَاصِّ مُبَاحٌ، وَأَنَّ مِيَاهَ الآبَارِ فِي الأعَمِّ الأغلَبِ مُتَّصِلَةٌ بِالمَجرَى العَامِّ، أَوجَدَ ذَلِكَ شُبهَةَ الإبَاحَةِ فِي مَاءِ الآبَارِ الخَاصَّةِ، لَكِنَّهَا إِبَاحَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى حَقِّ الشَّفَةِ دُونَ حَقِّ الشُّربِ[7].

وَاتِّجَاهَاتُ الفُقَهَاءِ مُختَلِفَةٌ بِالنِّسبَةِ لِمِلكِيَّةِ مَاءِ آبَارِ الدُّورِ وَالأرَاضِي المَملُوكَةِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ النَّاسِ بِهَا. فَقِيلَ بِأَنَّ لِلنَّاسِ حَقًّا فِيهَا. وَهُوَ قَولٌ عِندَ الحَنَفِيَّةِ إِذَا لَم يُوجَد مَاءٌ قَرِيبٌ فِي غَيرِ مِلكِ أَحَدٍ، حَتَّى لَو لَم يَفِض عَن حَاجَتِهِ عِندَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَيَّدَ أَكثَرُ المَشَايِخِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ يَفِيضُ عَن حَاجَتِهِ[8]. وَهُوَ مَذهَبُ الحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ البِئرَ مَا وُضِعَ لِلإحرَازِ، وَلأَِنَّ فِي بَقَاءِ حَقِّ الشَّفَةِ ضَرُورَةً، وَلأَِنَّ البِئرَ تَتبَعُ الأرضَ دُونَ المَاءِ، وَلِخَبَرِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: المَاءِ وَالكَلإَِ وَالنَّارِ»[9]. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذهَبِ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ حَفرُ البِئرِ بِقَصدِ الاِنتِفَاعِ بِالمَاءِ، أَو حُفِرَ بِقَصدِ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ غَيرُ المَشهُورِ عِندَ المَالِكِيَّةِ فِي غَيرِ آبَارِ الدُّورِ وَالحَوَائِطِ المُسَوَّرَةِ. وَقَيَّدَ ذَلِكَ ابنُ رُشدٍ بِمَا إِذَا كَانَتِ البِئرُ فِي أَرضٍ لاَ يَضُرُّهَا الدُّخُولُ فِيهَا[10].

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، وَمِلكِيَّتُهُ خَالِصَةٌ لِصَاحِبِهِ. وَهُوَ قَولٌ عِندَ الحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَن أَحمَدَ، وَمَذهَبُ المَالِكِيَّةِ بِالنِّسبَةِ لآِبَارِ الدُّورِ وَالحَوَائِطِ المُسَوَّرَةِ، وَالقَولُ المَشهُورُ عِندَهُم بِالنِّسبَةِ لِغَيرِهَا مِنَ الآبَارِ الخَاصَّةِ فِي الأرَاضِيِ المَملُوكَةِ، وَالأصَحُّ عِندَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ يَملِكُ المَنبَعَ، أَو كَانَ حَفَرَهَا بِقَصدِ التَّمَلُّكِ. فَلِصَاحِبِ البِئرِ عَلَى هَذَا أَن يَمنَعَ الغَيرَ مِن حَقِّ الشَّفَةِ أَيضًا، وَأَن يَبِيعَ المَاءَ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكمِ المُحرَزِ. وَيُقَيَّدُ المَنعُ بِغَيرِ مَن خِيفَ عَلَيهِ الهَلاَكُ؛ لأَِنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ[11]. وَفِي

مَعنَى المَاءِ المَعَادِنُ الجَارِيَةُ فِي الأملاَكِ، كَالقَارِ وَالنَّفطِ[12].


[1] الشرح الصغير بحاشية بلغة السالك 2 / 296 سنة 1372 هـ، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4 / 69 ط دار الفكر العربى، ومغني المحتاج 2 / 366 ط مصطفى الحلبي سنة 1377 هـ، والإقناع بحاشية البجيرمي 3 / 199 ط مصطفى الحلبي، والمغني 6 / 157 ط المنار سنة 1347 هـ، وتبيين الحقائق 6 / 36 ط سنة 1315 هـ، وحاشية ابن عابدين 5 / 303، وتكملة فتح القدير 8 / 139 ط بولاق.

[2] البدائع 6 / 191 ط الخانجي. وحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للبئر حريما» روي بعدة روايات باختلاف، فقد رواه (الدارمي 2 / 273 ط دار الكتب العلمية، وابن ماجه 2 / 831 ط عيسى الحلبي) ومداره على إسماعيل بن مسلم المكي. قال أبو زرعة: ضعيف، وقال أحمد وغيره: منكر الحديث. (ميزان الاعتدال 1 / 248 ـ 249 ط عيسى الحلبي) وفيه منصور بن صقير في رواية لابن ماجه، وفيه لين (فيض القدير 3 / 382، وتهذيب التهذيب 10 / 309 ط حيدر آباد) وفي تعليقات قاسم بن قطلوبغا رواية: «حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا» قال الحافظ: لم أجده هكذا، قال العلامة قاسم: قلت: رواه هكذا الإمام محمد بن الحسن. (منية الألمعي ص 64 ط السعادة)

[3] البدائع 6 / 195، وتبيين الحقائق 6 / 36، 37، والفتاوى الهندية 5 / 387، 388 ط بولاق، والشرح الصغير 4 / 294 ط مصطفى الحلبي، والوجيز 1 / 242 ط 1317 هـ، ومغني المحتاج 2 / 363، والمهذب 1 / 424 ط عيسى الحلبي، والغرر البهية 3 / 355 ـ 357، وكشاف القناع 4 / 161، 163، والمغني 6 / 157

[4] حديث: «الناس شركاء...» رواه أحمد، وأبو داود مرسلا بلفظ: «المسلمون شركاء في ثلاثة: في الكلأ، والماء، والنار» (فيض القدير 6 / 271 ـ 272) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، وفيه عبد الله بن خراش، متروك، وقد صححه ابن السكن، ورواه غيره. انظر (تلخيص الحبير 3 / 65 ط الفنية)

[5] حديث: «نهى عن بيع الماء...» رواه أبو عبيد عن المشيخة في (الأموال / 302 تحقيق محمد حامد الفقي) وفي سنده من تكلم فيه، انظر (ميزان الاعتدال 1 / 331 و 4 / 267، 498 ط عيسى الحلبي) ورواه الترمذي عن إياس بن عبد المزني قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الماء» قال: وهو حديث حسن صحيح. (تحفة الأحوذي 4 / 490 ـ 492 ط السلفية بالمدينة) ورواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء» (صحيح مسلم 3 / 1197 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي)

[6] حق الشفة: حق الشرب للآدمي والبهائم دون سقي الزرع.

[7] الشرب: النصيب من الماء اللازم للسقي والإنبات.

[8] الفتاوى الهندية 5 / 391، وتبيين الحقائق 6 / 40

[9] حديث: «الناس شركاء...» سبق تخريجه.

[10] تبيين الحقائق 6 / 40، وحاشية الدسوقي 4 / 72 ط الحلبي، والوجيز للغزالي 1 / 244، ومغني المحتاج 2 / 374، 375، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير 6 / 176 ـ 182، وكشاف القناع 3 / 225 و 4 / 160

[11] المراجع السابقة.

[12] المغني 4 / 61 ط مكتبة القاهرة.

للمشاركة بالمقالات في الشبكة
نرحب بمشاركاتكم ومقالاتكم لنشرها في الشبكة، للمشاركة يمكنكم الضغط هنا